الحائط فجأة. ومدخل البناية المبتسم باستمرار. والقساطل التي ترفع الماء بجسمها النحيل. والدرج الذي يعدُّ خطوات الصاعدين. وظلمة الطابق الأول. وخرافة الطابق الأخير. والدورات المبروم كالحنين. والرصيف الذي يستلقي لاهثاً على جانبي الطريق. والناس للناس. والحقد الريفي. ويحكون عن الجدة التي ذهبت بعظامها الى المقبرة. والولد الذي كان يكره الليل ثم صار يعشقه. وظنَّ مرة أن الليل يصعد من الرأس، مثلما الصبح يخرج من العينين. والشجر الذي يهرول كقطيع مجانين. وعزلة الزوايا. ووحشة الممرات. وصراحة السطوح. والصبر في الحنجرة. والخطوة الناقصة. والخطوة المؤجلة. والمشي يكرر القدمين. والقبضة الرخوة في الصدر. والأجسام الثقيلة في المخيلة. والظلال المحروقة على الأرض. والمعجزات في الرأس. والبياض المباغت. والبياض الأبله. والرجل يتقدم ويقع خلفه. الأرض أينما ذهب. والبحر الغريق أكثر من غريق. وجميع الذين يولدون فجأة ويموتون على مهل. وعيناه اللتان تتنقلان في الهواء بلا وجه. ويراه الناس بهما. وتلمعان ببهجة كالأحذية الجديدة. وتموتان مفتوحتين. وتموتان متأخرتين. والخارجتان من الوجه كصرخة. النسيان ولادة. والجسد ذكرى الآخرين. والمعصية الخضراء. والنقمة التي صارت عضلاً. والأشواك التي تتنزه في الحقل. وتجرح الهواء. والهواء. وتلك التي تحرس جمالها. وجمالها. وحبيبي المهذّب كورقة كلينكس. والأحد السمين كخروف. والليل الذي لا يأتي إلا في الليل. يدخل متعباً وينام على الفور. والبلاد البعيدة حيث الناس يغنّون للعتمة ويفتحون قمصانهم للنهار. ثم يأتي المساء ويسحبهم من أرجلهم: يُجلس الجدة على الطرّاحة، والأب على الكرسي، والأولاد على الرفوف، والضحكة على وبر الحرامات. والكل يأخذ دوره في الكلام. والولد الذي يستمع نسي رجليه في الغابة. ويفكك الأصوات ويركّبها: يعطي الجارة صوت الزواريب، والأم صوت الصقيع، والبدن صوت احتكاك الثياب بالأحلام. ويرسم ما يخطر له: الكلسات رأس حصان، الشجرة صرخة، البيت جندياً، الكلمات ماء في مزراب. أشياء كثيرة تقع في البيت. منفضة مثلاً. قميص في الخزانة. صابونة في البانيو. ملقط غسيل. أسماء ليس لها أصحاب. أغانٍ وكؤوس. سنوات بكاملها. والسجادة تلهو بنقوشها. والزجاج يحدّق بالداخل المظلم. والطاولة التي لا تجيد إلا الجمباز. والشفقة على كل ما يتحرك. أشياء تقع. لا تنكسر. تبتعد فقط. أشياء كثيرة تُنسى في البيت. ماء الحنفية. الغاز المشتعل. الهواء في الأذن. روزنامة العام الفائت. اللمبة المضاءة. وسائل الدفاع عن الذات. البراءة التي ظنناها وجهاً. الحائط المطلي بالألم. عدد الأسنان في الفم. لون العينين على المخدة. الذئب الذي يعوي في البطن. الجرح الذي صار تحفة. والوجه الذي يمرُّ مع الوقت في المرآة. في ذلك الليل المظلم – منذ متى لم يعد الليل مظلماً – كان الشارع ذئباً. الشبان بظهورهم المطمئنة الى الحائط. الكلمات البلهاء لمقاتلين يتنزّهون بثيابهم العسكرية. البناية المعتمة حيث كانت الأرواح تحاول عبثاً أن تعود مرئية. البيت الفسيح والبلاط الكسول. النوافذ التي يطلُّ منها الناس ليختبروا رؤوسهم. الوحشة الأبدية لنباح الكلاب. البراغيث التي تداعب الضوء. وأكياس النفايات بطون متدلية. وأيضاً جارنا الذي يشتري الحديد والألومينيوم والزجاجات الفارغة. وصاحب الدكان برجليه المقطوعتين وزوجته الطويلة يرسل أولاده الى الحياة. والعم الذي كان يصنع أحذية معتقداً أنه يكثر من مشي البشر. كان كل شيء صامتاً. الرصاص ينطلق ولا يصيب أحداً. البحر صريح أكثر من اللزوم. غداً سنذهب الى المدرسة. سنكره المعلمين والزملاء. سنقول: حياتنا ليست شجرة بل نقش. في ذلك الوقت، كنا بلا أسماء لأن أحداً لم يسألنا عنها. وداعاً لكل شيء مرَّ. الانتظار مجرد حجر. من جديد أصافح تلك الوجوه. وجوه جادة ذاهبة الى العمل. وجوه ذاهبة الى المستقبل. الجار يعلن استيقاظه الباكر بالسعال. الجار ديك الحي. السعال ليس مرضاً كما عرفت لاحقاً. إنه تذكير بأن الحياة ما زالت مقيمة في الطابق الرابع. الأخت تنهض من فراشها وتسقي النباتات. فكرتها: النباتات ليست ماضياً. النباتات انتقام من الوحدة. النباتات أفواه خرساء. تتقدم الشمس بخطى بطيئة. توقف السيارات وتقطع الشارع. النساء يودّعنها بالأسوار. يدخل الليل بالجاكيت السوداء وينام كالمذنب. --- --- --- --- --- يعود إلى البيت ويغلق الباب عليه. يخرج من البيت ويغلق الباب عليه أيضاً. في الشارع كان يدندن أغانيَ كثيرة صانعاً منها أغنية واحدة. يجلم بحياة عادية: زوجة وأولاد وكلب يمدّ رأسه من السيارة في النزهات الطويلة. يفكّر في أيدٍ مخترعة. ينظر إلى الطرقات التي تطول خلفه. وبشيء من الارتباك يهتف: المستقبل وراء ظهري. --- --- --- --- --- اضغط هنا للاتصال بالمؤلف ناظم السيد --- --- --- --- --- * مقتطفات من كتاب "أرض معزولة بالنوم" - رياض الريس للكتب والنشر - 2007 (بيروت)