الوطن - السعودية "ما إن يخضع الإنسان لسلطان النوم حتى تنطلق روحه لتجوب عالما آخر يختلف عن عالم اليقظة فتسقط حواجز الزمان والمكان، فالعين ترى والأذن تسمع واللسان ينطق لكن الجسد ساكن أشبه بحالة الممات" تحدثنا في المقال السابق عن ظاهرة الأحلام وذكرنا أن المحللين شرقوا وغربوا بحثاً عن أسبابها وماهيتها، وأن الإنسان رغم أنه يقضي ساعتين في الأحلام كل ليلة، أي ما يعادل حوالي ستة أعوام خلال حياته، إلا أن عالم الأحلام ما زال من أكثر الأمور غموضاً بالنسبة له. كما استعرضنا طبيعة عمل العقل اللاواعي أثناء النوم، وقدرته الفائقة على تجميع المعلومات أثناء اليوم وملاحظة أدق التفاصيل، وما له من فضل في تقديم حلول مبدعة لمسائل استعصت على العقل الواعي.. ونواصل اليوم استعراض المزيد من النظريات التي تحاول تفسير الأحلام. تبنت بعض النظريات أن الأحلام تعالج فينا الصدمات النفسية التي نتلقاها في يقظتنا، وهذا ما ذهب إليه كارل يونج من أن الأحلام تقدم حلولاً لمشكلات الإنسان في محاولة لإعادة التوازن الداخلي، ومثال ذلك أنه إذا نجا الإنسان من حريق فإنه في أغلب الظن سيحلم به في تلك الليلة، وهي وسيلة أودعها الله الإنسان لتعينه على سرعة التشافي والعلاج من صدمات الحياة اليومية والتكيف مع حوادث الدنيا، فتخفف عنا وطأة الصدمات والكوارث حتى لا نفقد عقولنا. ونظرية أخرى أن النوم والأحلام طريقة لإعادة ترتيب وتنظيم الملفات في الدماغ وطرح المعلومات التي لا معنى لها، أي بمثابة تنظيف بنك المعلومات في الدماغ، وفيه يتم تنظيم الذاكرة وتقوية الروابط بين المعلومات التي قد نحتاجها مستقبلاً، ويتم التخلص من الذكريات غير المفيدة كي لا يزدحم الدماغ. وكذلك النظرية التي ترى الأحلام تعطي الإنسان الحرية في اختبار وتجربة تصرفات أو مبادرات أو سلوكيات يصعب تجربتها في الواقع، فيقوم الدماغ بالربط بين الأفكار والمشاعر والقيام بهذه التجارب في الأحلام دون الخوف من تبعات هذه المحاولات الجريئة. إذاً ما تقوم به الأحلام هو بمثابة رسائل من العقل اللاواعي تختفي وراء أفكار أو صور وقصص خيالية، وهكذا يعمل العقل اللاواعي وتحتاج هذه الرسائل لفك رموزها ليفهمها العقل الواعي، وهناك من ذهب ومنهم فرويد إلى أن من وظائف الأحلام كذلك حراسة النوم ومقاومة أي شيء يؤدي إلى إقلاق النائم وإيقاظه من نومه، فإذا أحس الإنسان بالعطش أثناء النوم مثلاً، فإنه سيرى في منامه أنه يشرب الماء، وبهذا يستمر نائماً ولا يضطر للاستيقاظ لشرب الماء. إن النظريات الحديثة ترى أن الأحلام تخدم جميع ما ذكرناه سابقا، كل على حسب احتياج الشخص في تلك الليلة وحالته النفسية والعقلية، فالأحلام والعقل اللاواعي خادمان للعقل الواعي يستجيبان لما يحتاجه الإنسان. والأحلام قد تكون قصيرة جداً لا تتجاوز الثواني وقد تصل إلى نصف ساعة، والنائمون يكونون أكثر قدرة على تذكر أحلامهم إذا تم إيقاظهم من نومهم أثناء مرحلة حركة العين السريعة، بل يكونون قادرين على تذكر طول الحلم بدقة، والإنسان العادى يرى ما بين 3 – 5 أحلام في الليلة، ومنهم من يصل إلى 7 أحلام، لكن الإنسان ينسى 95% منها. ووجد كذلك أن هناك فئة من الناس لديهم قدرة أعلى على تذكر أحلامهم كل ليلة. وفي دراسة نشرت في 19 فبراير 2014 في مجلة نيورو سايكو فارماكولوجي وجد أن المنطقة الأمامية في الدماغ عند هؤلاء تكون أكثر نشاطا وهي المسؤولة عن الإدراك والوعي، وبذلك يكون نومهم خفيفا ويستيقظون مراراً أثناء الليل. وبتكرار استيقاظهم ليلاً تتوفر للدماغ فرصة نقل صور الحلم من الباهتة إلى مراكز الذاكرة الأطول مدى وتخزينها، فالدماغ النائم لا يستطيع استحداث خلايا ذاكرة جديدة. وهناك ظاهرة تسمى بظاهرة (الحلم الجلي) أو (صافي التفكير) وفيه يدرك الإنسان أنه يحلم ويمكنه كذلك توجيه حلمه والسيطرة والتحكم فيه واتخاذ قرارات واعية لما يرغب النائم فعله، وقد وجد أن الجزء الأمامي من الدماغ كذلك وهو المسؤول عن التخطيط والإدراك والوعي يكون مفعلاً ونشطاً بخلاف الأحلام الأخرى. وقد توصل فريق من علماء الأعصاب السويسريين في مستشفى جامعة زيورخ إلى تحديد مركز منشأ الأحلام في الدماغ، وهي المنطقة العميقة في النصف الخلفي من الدماغ والمسؤولة عن رؤية الوجوه والعلامات المميزة والمشاعر والذاكرة البصرية، وتوصل كذلك علماء في اليابان وكذلك في جامعة بيركلي في كاليفورنيا باستخدام التقنيات الحديثة لأشعات الدماغ لترجمة إشارات عصبية للدماغ أثناء الأحلام وفك شفراتها بدقة عالية جدا، وبذلك قراءة الأحلام ومقارنتها بما يتذكر النائم منها بعد استيقاظه وقد نشرت الدراسة في مجلة العلوم جورنال أوف ساينس. أما عن نظرة الإسلام للأحلام، فهو يراها على أنها واحدة من ثلاثة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً ورؤيا المسلم جزء من خمسٍ وأربعين جزءاً من النبوة والرؤيا ثلاثة فرؤيا الصالحة بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء نفسه فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس". إذاً فالرؤيا من الله تبشير نحمد الله عليها، وهي الرؤية الصالحة التي نحدث بها من نحب والثانية من الشيطان نتعوذ منها وننفث عن يسارنا ثلاثاً ولا نحدث بها أحداً، والثالثة أضغاث أحلام وهي رغبات ومخاوف مكبوتة في العقل الباطن قال عنها الرسول، صلى الله عليه وسلم، "ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه". وقد بدأت علاقة النبي بالرؤى في وقت مبكر من عمره. وقد كانت أولى علامات صدق نبوته وبعثته، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". وقد كان النبي حريصاً على الاستماع إلى ما يراه أصحابه في منامهم ويكثر من سؤالهم خصوصاً بعد صلاة الفجر عما رأوه في منامهم، ومنها تلك الرؤى المشهورة التي ذكرت فيها كلمات الأذان المعروفة. وقد اهتم العلماء العرب المسلمون بالرؤى وتفسيرها وأصبح ذلك علماً بحد ذاته عند بعض المفسرين مثل محمد بن سيرين. وعلم تفسير الأحلام ليس علما مكتسبا لكنه موهبة وعطية وهدية وملكة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده ويعتمد على مجموعة صفات وخصال يرزقها الله المفسر، منها الفراسة والذكاء والنظر في حالة الرائي، فهو إلى الإلهام أقرب منه إلى العلم. ومن الخطورة بمكان أن يستوضح صاحب الرؤيا ويطلب تأويلاً لرؤياه من أي أحد، فقد تكون سبباً في الوقوع في ضرر فلا يسأل إلا من يثق في علمه ودينه (الرؤيا تقع على ما تعبر) ومثل ذلك رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً. وقد يختلف تعبير الرؤيا نفسها من شخص لآخر حسب القرائن التي تصحب هذه الرؤيا، فلا يمكن الاعتماد على كتب تفسير الأحلام. ما أن يضع الإنسان جنبه على الفراش ويخضع لسلطان النوم حتى تنطلق روحه لتجوب عالما آخر يختلف بحدوده ومقاييسه وطبيعته عن عالم اليقظة فتسقط حواجز الزمان والمكان، فالعين ترى والأذن تسمع واللسان ينطق لكن الجسد ساكن أشبه بحالة الممات. إنه عالم الرؤى والأحلام الذي كان وما زال مثار اهتمام الإنسان على مر العصور والأزمان. ومن أكرم بالرؤى الصالحة فقد أكرم بما بقي من ميراث النبوة قال صلى الله عليه وسلم "لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" فليحمد الله ولا يبدل فيبدل الله عليه فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.