اليوم - السعودية من حين أن رسم الإنسان نفسه منذ الأزل، من لوحة الموناليزا لدافنشي التي بحث العلماء طويلا عن صاحبة أو صاحب الصورة -إن كان لها صاحب-، ولوحة الطفل الباكي لجيوفاني التي تحولت قصتها إلى شيء شبيه بالأسطورة، إلى منتصف القرن التاسع عشر حين تم اختراع الكاميرا، إلى حين توافرها في أيدي الناس، إلى حين دخولها في الهواتف الذكية، ودمجها وتطبيعها في حياتنا، إلى هوس (السيلفي) في العام الماضي، وازدياد الهوس به وتطوره في العالم الحالي. (السيلفي) الكلمة التي تشبه الحصان الأسود، خرجت من حقل الخمول إلى النشاط، وتطبعت في اللغة المتداولة، وأكثر منه في الحياة الواقعية، وقد وضع قاموس أكسفورد لها تعريفا بأنها: «صورة ملتقطة ذاتيا بواسطة هاتف ذكي أو ويبكام وتنشر على موقع للتواصل الاجتماعي»، وكانت أشهر السيلفي الملتقطة صورة الممثلة إلين ديجينيريس مع عدد من نجوم هوليود في حفل تقديم جوائز مهرجان الأوسكار، وقُدّرت قيمتها بمليار دولار. ليس (السيلفي) حكراً على المراهقين، بل ربما لا علاقة له بالعمر ولا بالجنس، بل إنه حسب دراسة لشركة «سامسونغ» الكورية الجنوبية لصناعة الهواتف فإن 17 في المائة من الرجال و10 في المائة من النساء يلتقطون صور سيلفي. مما يجعل الرجال أكثر اهتماماً بالتقاط صورهم الشخصية على عكس ما هو مفترض من أن النساء أكثر حبا لذلك، وعكس الإحصائيات التي تشير إلى أن المرأة تتفوق على الرجل في عدد مرات النظر إلى المرآة. الكاميرا تعيد صياغة حياتنا، هذه العبارة هي ملخص ما أود قوله في السطور القادمة، قبل سنوات من الآن، كان من يرغب بتصوير نفسه غريبا، وربما فعله هذا سيكون دليلا على النرجسية، ولا يزال بعض من يحلل (السيلفي) يراه مؤشرا على النرجسية وارتفاع (الأنا)، ودليلا على اضطرابات نفسية نتيجة عدم الثقة بالذات، وفي اعتقادي أنه شكل من أشكال الممانعة لما يطرأ على سلوكنا من تغيّرات، وفقا لتطور الحياة. القيم ثابتة في جوهرها، لكننا لا نتعامل مع هذا الجوهر، وإنما نتعامل مع تجلياتها في سلوكياتنا اليومية. الحياء والحب والتواضع والتكبر والكره على سبيل المثال، قيٌم تتجلى في سلوكياتنا بشكل يومي وفي كل لحظة، وغريب جدا كيف أنه مع الوقت يتحول السلوك الواحد من دلالته على قيمة ما إلى دلالته على قيمة معاكسة، فمن دلالة السيلفي على النرجسية، إلى دلالته على التواضع مثلا، بل ربما سيكون المسؤول أو الفنان الذي يرفض أخذ (السيلفي) مع أحد المعجبين متعجرفاً في نظر الناس، وربما يأتي اليوم الذي يلتقط الأفراد فيه (السيلفي) لإيصال رسالة بأنهم يعيشون حياة عادية وهادئة، وأنهم لا يمانعون من الظهور أمام الناس، وهو ما يحدث بالفعل في هذه الأيام. على سبيل التندر يقال إنه سيأتي اليوم الذي يقوم به المحتضر بالتقاط (السيلفي) قبل وفاته، وكذلك المصاب في حادث ما، حقيقة لا أستبعد ذلك أبداً، بل أظنه سيحدث، وأظن أن شعورنا تجاه هؤلاء سيكون غريبا في البداية ثم سنتقبله ونعتبره شجاعة. المثير في الموضوع كيف تتغيّر رؤيتنا تجاه السلوكيات، أو بمعنى آخر، كيف تتبدل تجليات القيم في واقع حياتنا. لا تزال (الصورة) تتدخل وتغير في حياتنا، ولا يزال هذا التغيير غير واضح لنا تماما، وأعتقد أنه أعظم مما نظن، في السابق كانت الصور محدودة. كم هي طريفةٌ تلك الصور التي تجمع العائلة الواحدة وهم يقفون فيها كالصنم، مما يدل على هيبة الكاميرا، وعلى كمية الاستعداد النفسي والمادي من أجل التقاط صورة واحدة، والآن الكاميرا أصبحت متاحة تحت كل يد، وفي كل مكان، وهي لا تدخل في حياتنا بحسب، بل تعيد صياغة حياتنا. كنا -ولا نزال- إلى حد كبير نعتبر أن التقاط الصور بغير إذن يعدّ انتهاكاً لخصوصيتنا، حتى لو كنا في مكان عام وفي شكل جميل، ربما لأننا نعتبر العزلة كما يعرّفها ميلان كونديرا بأنها: «غيابٌ عذبٌ عن النظرات»، فحين نريد أن نكون وحدنا قد نبقى في البيت وقد نخرج وحدنا، وقد نقرر أن نسافر وحدنا، فالعزلة ليست غيابا عن الناس، بل هي غياب عن نظراتهم، أن نكون ضمن الأعداد الهائلة بعيدين عن نظرات من يعرفنا، لكن حين نشعر أن عيناً ما تنظر إلينا نشعر بالانزعاج، وأن ثمّة من اخترق مجالنا الخاص. في الكلية التي أدرّس فيها تم وضع كاميرات للمراقبة في جميع الممرات، كاميرات شبيهة بالتي نراها في الأماكن العامة اليوم، لكن الفصول الدراسية لا تزال خالية ونقية منها، وحقيقة أني لا أدري كيف سأستطيع التدريس وأنا أشعر بوجود هذه الكاميرا لو أنها كانت موجودة في القاعات الدراسية، إن الشعور بأن هناك من ينظر إليك، ويوثّق لحظاتك، حتى ولو كان جهازا آليا، حتى ولو كان أرشيفا يضم ملايين اللحظات بحيث لا يمكن تصوّر أن يعود إليه أحد ما، لكن هناك استياء من وجود الكاميرا في حياتنا، مع أنني أعتقد أنه في يوم ما سيزول هذا الانزعاج. بعض الطلاب يريني أحيانا صورا التقطها لي في قاعة التدريس دون علمي، ويريني كذلك صور (السبورة) التي قمت بالكتابة عليها أو الرسم، أراها بعد زمن.. شعور غريب.. أظنه بعد فترة لن يبقى ولن يعني شيئا، وسيصبح للخصوصية معنى مختلف بفضل الكاميرا، وربما سيتعجب منّا أحفادنا بسبب مفهومنا الغريب للخصوصية.