العرب القطرية كنت في زيارة لأحد المصالح الحكومية, ولفت نظري ذلك النقاش الذي كان بين اثنين الموظفين عن أحقية فلان بإدارة تلك الإدارة عن فلان الذي كان منافساً له في الترشيح. والغريب أنهم اتفقوا (أن فلان أكبر يعني فلان أحق) ولم يتطرق أحد لقضية الكفاءة أو الالتزام أو مناسبة المهمة لصفات أو مؤهلات المكلف بها! أخذتني الذاكرة بعد خروجي لقصة تولي أسامة بن زيد رضي الله عنه لإمارة الجيش وهو ابن السابعة عشرة وتحت إمرته أغلب العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم! وكان الشعار (الأكفأ هو الأولى) وتذكرت كيف ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه فور إسلامه قائداً على جيش ضمن جنوده أبوبكر وعمر رضي الله عنهم، ولكنه كان الأنسب لهذه المهمة. هذا العرف الدارج لا يوجد فقط في منظومة الأعمال، إنما في فضاء الأسرة والعمل الاجتماعي والخيري والخاص. فعقدة الكبير ساطية على آلية الاختيار, وهذا يجعل النتائج والمخرجات في بعض الأحيان تعاني من التعثر أو الانتكاسة أو الضعف والمواهب والطاقات تتسرب وتطير إلى عش آخر يحتضنها ويستثمر من خلالها. لأن مؤشرات الاختيار السابقة قامت على المجاملة والبعد العاطفي الذي لم يُقدر المصلحة المستقبلية ولا الاحترافية في الأداء ولا الناموس الكوني العميق «كُل ميسر لما خُلق له» حيث تم التركيز على العمر كوسيلة للترشيح والأحقية لأي عمل أو مسؤولية, أما باقي المؤشرات مثل الصفات الشخصية أو العلمية أو الجوانب النفسية والقدرات الإدارية أو حسن السمعة وصلاح السلوك ودماثة الخلق ومناسبة المهمة لهذه الشخصية والتي هي من أهم مؤشرات الاختيار في أي عمل أو منصب فهي لا تهُم! كذبة (الكبير) دوماً أحق كذبة كبرى لم يتأمل السواد الأعظم صوابها وفاعليتها, بل تبرمج عليها الناس من تراكم الثقافة المحلية والعادات, وأصبحت من المسلمات التي يرفض البعض نقاشها ومراجعة جدواها وإعلان نتائجها! الكبير مقدر ومحترم بلا شك وله مكانة ومنزلة, ولكن في تحديد المسؤوليات والمهام وقيادة الركب لا بد أن نبحث عن الإنسان المناسب في المكان المناسب, ولا نكون عاطفيين فنختار حسب الشكل أو العمر أو العائلة أو القبيلة أو الجنسية, فتأتي النتائج صادمة للجميع لأن الاختيار لم يكن على معايير موضوعية دقيقة. علماء القيادة يجمعون أن العمر ليس معيار اختيار, بل إن بعض الدول حالياً ألغت شرط الأربعين عاما لتولي بعض المناصب القيادية لتمكين الشباب والرهان عليهم, وما زال البعض الآخر يتعامل مع الشباب على أنهم أزمة وليسوا فرصة! لقد تجاوز العالم هذه العقدة, وأصبح يبحث عن الكفاءات كأنه يبحث عن الذهب في الصحاري. فالمهمة هي التي تطلب صاحبها, والمجال هو الذي يحدد رائده, والعمر والأقدمية لا تعني أنك أفضل أو أفهم أو أحق. في جانب آخر لا يقل أهمية نلحظ في حواراتنا مع بعض الشباب أنه واثقاً من طرحه, طَموحاً في أدائه, ومتمكنا من حواره وبيانه, عميقاً في فهمه, مقبلا على العالم بجد وحماس, فتعرف أن هؤلاء لديهم الكثير من الإبداع والإمتاع ليقدموه لكن قد يصطدمون بعقبة (الكبير أولاً), حيث يقفون في طابور الانتظار حتى يُطلبوا, وقد لا يطلبون, ويودون المشاركة أو المبادرة فيكون صغر السن أول أدوات إقصائهم. والمضحك أن هذا الاضطهاد الاجتماعي الذي يتربون عليه سوف يمارسونه عندما يكبرون على من هم أصغر منهم! رغم أنهم كانوا من أبرز المُحارَبين به ذات يوم, وتستمر الدوامة إن لم يتوفر الوعي والحكمة والإنصاف! وعلى الجانب الآخر تجد فاقد الثقة في نفسه, والخائف من الإقدام, والبعيد عن المبادرة, حيث يؤثر السلامة ولا يُحبذ المشاركة ولا يُجرؤ على طرح ما بجعبته, فتدرك أنه في يوم من الأيام وهو في عز انطلاقته قيل له «إذا تكلم الكبير أنت تخرص» أو «لا رأي لك في وجود الكبار» أو «أنت أيش فهمك» أو «أنت لسه طالع من البيضة». فتعرف أنه عاش قسوة النظرة الدونية من الصغر والاحتقار والتحطيم من نعومة الأظفار. وكان السلاح الفتاك المستخدم هنا هو (الكبير.. دائماً فاهم). *محبرة الحكيم* الكبير مقدر ومحترم بلا شك وله مكانة ومنزلة, ولكن في تحديد المسؤوليات والمهام وقيادة الركب لا بد أن نبحث عن الإنسان المناسب في المكان المناسب, ولا نكون عاطفيين فنختار حسب الشكل أو العمر أو العائلة أو القبيلة أو الجنسية مدرب ومستشار معتمد في التنمية البشرية وتطوير الذات CCT وعضو الجمعية الأميركية للتدريب والتطوير [email protected]