الشروق-القاهرة لا حول ولا قوة إلا بالله مع كل حادث إرهابى لعين مثل حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية، نبتعد أكثر عن طريق العدالة الانتقالية الذى لن ينقذنا غيره، وينتصر مؤقتا تجار الدم الذين يتخذون من جثث القتلى مبررا لتأكيد رغبتهم فى المضى قدما فى طريق الدم، ويضعف تأثير كل صوت يحاول أن ينبه الجميع إلى أننا سنضيع إذا لم يتول أمرنا عقلاء يبحثون عن مخارج سياسية لما نحن فيه، وأن ما أريق من دماء فى السابق لم يفعل شيئا سوى أنه تحول إلى مبرر للمزيد من الإرهاب ومبرر للمزيد من القمع أيضا، وأن سياسة دفع الأمور إلى أقصاها لن يدفع ثمنها أولا وأخيرا إلا المواطن البسيط المسنود على ستر ربنا وحده. هل المزيد من السحق هو الحل؟ سؤال مشروع يفرضه الغضب والقرف، لكن دعنا فقط نتذكر أنه فى يوم من أيام سنة 1954 جلس بالتأكيد مثقف ما منجعصا وقال لمن حوله: «بس كده الإخوان انتهوا للأبد ونقدر نبنى مصر على نضيف»، نفس الشخص انجعص بالتأكيد نفس الانجعاصة وقال نفس الجملة فى سنة 1965، وأظنه الآن يجلس قائلا لمن حوله بنفس الانجعاصة «مش هنبنى مصر على نضيف إلا لو الإخوان انتهوا للأبد»، وللأسف حتى يقتنع كل المنجعصين أن الأفكار حتى لو كانت فاسدة أو مجرمة أو بنت ستين فى سبعين لن يهزمها إلا السياسة، ولن يقهرها إلا تعقيدات الواقع ولن يحاصرها إلا إخراجها للنور، سيظل مكتوبا علينا الإبتلاء بيقين المنجعصين مستسهلى القتل، فالقتل بالفعل أسهل بكثير من مقاومة الأفكار، لكن صعوبته أنه يقصف عمر حامل الفكرة، لكنه يطيل بقاءها ويسهل إقناع آخرين بحملها والموت من أجلها. حتى لو كنت ممن يعتبرون تأمل التاريخ «هريا» لا طائل من ورائه، فمع احترامى لعدم احترامك للتاريخ، فإنه إذا كان يجب أن يعلمك التاريخ شيئا وحيدا، فهو «أبدا لا تقل أبدا»، لأن الأمور دائما ليست كما تبدو عليه، وما يبدو لك رغبة فى الإنتصار الساحق من جميع الأطراف على بعضها، يمكن أن يكون رغبة للإجبار على قبول شروط التفاوض التى يخرج كل المتفاوضين منها فى النهاية بقدر المصالح المتناسب مع قوتهم الفعلية على الأرض، وحتى يحدث ذلك ليس مهما عدد الذين يموتون ولا من هم ولا لماذا ماتوا، المهم أنهم ماتوا وهم مقتنعون بأنهم يشاركون فى حرب من أجل الحفاظ على الدين أو الوطنية أو الشرعية أو المدنية. لا تظن أن الحكمة الشعبية كانت عابثة عندما أجرت على لسان مواطن قديم قولها الأثير «ما تخافش من الهبلة خاف من خلفتها»، لذلك ادع معى أن يكون هناك حقا فى رأس الدولة من يفعل كل ما يفعله الآن من أجل دفع الإخوان إلى القبول بخطة ما، أيا كانت تلك الخطة، وحاول أن تتناسى معى أن كل المؤشرات تدل على أنه لا يوجد خطة من أساسه، وعليك حتى أن ينجلى غبار المعركة عن طبيعة الخطة، أو يتدخل عاقل لاقتراح خطة ما، أن تقاوم الكآبة التى تصيبك كلما سقط ضابط أو جندى فى عملية إرهابية غادرة، أو عندما يتم ذبح سائق تاكسى لأنه دهس متظاهرة، وما إلى ذلك من أخبار الاقتتال الأهلى التى لا يشغل الكثيرين أبدا التفكير فى خطورتها، بقدر ما يشغلهم أن يتخذوها دليلا لتأكيد وجهة نظرهم فى أن الطرف الآخر «مش لازم يعيش ليوم التلات». يسألنى صديق: لماذا تكرر دائما اعتقادك بصعوبة سحق الإخوان إلى الأبد؟ فأجيبه أننى لن أتحدث عن الاعتبارات المثالية الأخلاقية التى تصيبه بالالتهابات، حتى وقت قريب كانت عبارة فولتير الشهيرة «على استعداد أن أدفع حياتى ثمنا من أجل حقك فى التعبير عن رأيك» تثير السخرية، أما الآن فيمكن أن تدفع حياتك ثمنا لترديدك لها، لذلك سأتحدث بشكل عملى واقعى خال من المشاعر والمبادئ، يعتقد باستحالة سحق الإخوان لأنهم جماعة غبية، والتاريخ يثبت أن الأغبياء عمرهم أطول دائما، لأن فناءهم يعنى خلو الكون من الدراما اللازمة لاستمراره. إذا ظننت أننى أهزل فى موضع الجد، فدعنى أسألك هل تعتقد حقا أنك يمكن أن تتخلص إلى الأبد من أناس عندما دخلوا ميدان التحرير خروا ساجدين كأنهم فتحوا عكا، وعندما فشلوا فى ركوب الثورات قرروا ركوب الجنازات فأرسلوا من يرفع إشارة رابعة فى جنازة نيلسون مانديلا، بل ورأينا بعض قادتهم يعلن أنه إذا رحل مانديلا فكلهم خلفاء مانديلا، وهى تصريحات لن أستغرب أبدا لو ظهر تسريب يفيد أن جثمان مانديلا أصدر شخرة عاتية بعد وصول صدى التصريحات إليه. لذلك إذا كنت تعتقد أن الحديث عن حقوق الإنسان محض هراء لا طائل منه، فدعنى أصارحك أن إمكانية التخلص إلى الأبد من أناس يفكرون بهذه العقلية، تساوى إمكانية أن ينصلح حال البلاد على أيدى أناس يعتقدون أن من العدل حبس طالب ووالده لأنه حمل مسطرة عليها إشارة رابعة، وأن أوباما عضو فى خلية إخوانية نائمة تجاور الخلية التى ينام فيها محمد البرادعى، وأن الكون بأكمله يتآمر لحرماننا من وصول السيسى إلى مقعد الرئاسة، وأن إنقاذ البلاد من وحلتها يمكن أن يتم بالمزيد من القتل والدم والقمع المترافق مع المزيد من الأغانى الوطنية والشعارات العاطفية. للأسف، لم تعد لدى مرارتى ومرارتك الطاقة اللازمة لمكافحة عشرات الأوهام المستشرية فى البلاد والتى مهما بدت متناقضة فإن تجريدها من القشرة الخارجية المحيطة بها سيكشف أنها نابعة من وهم وحيد لا ثانى له هو اعتقاد الجميع أنه يمكن لكل منهم أن يصنع وطنا على مزاجه يعيش فيه مع من يحبهم ويرضى عنهم، ولا يضطر فيه لتحمل «خِلَق» وأفكار وتفاهات من يكرههم ويتمنى زوالهم، ولعلك إن فتشت فى كل الحروب الأهلية والدولية والإقليمية والعالمية التى خاضتها البشرية فى تاريخها لوجدتها نابعة فى النهاية من ذلك الوهم الذى ينساه البعض سريعا عندما تتبين فداحة ثمنه، ويتمسك به الكثيرون لفترة أطول فتكون النتيجة مزيدا من نزيف الدماء والموارد والأعمار. ولذلك خلق الله الندم، وألهم الإنسان أن يخلق السياسة لكى تخلصه من مرارة الشعور بالندم.