قرأت قبل أيام عن رجل عجوز توفي في شقته بشيكاغو قبل عامين ولم تكتشف جثته إلا بعد أن فاحت رائحته من الشقة!! الخبر بحد ذاته كلاسيكي ومعتاد وسبق وقرأنا مثله من لندن ونيويورك وطوكيو وبرلين وكافة المدن الكبرى. وحوادث كهذه ليست سوى دليل على تزايد ظاهرة العزلة والفردية واختيار معظم الناس هناك العيش في عزلة قاتلة.. وفي المجتمعات الغربية على وجه الخصوص هناك ظاهرتان ساهمتا في رفع نسبة العزلة والانسحاب من المجتمع.. الأولى هي الارتفاع المستمر في متوسط العمر وتغلب كفة الشيوخ على المواليد الجدد.. أما الثانية فانهيار تركيبة العائلة بحيث أصبح الوالدان يعيشان وحدهما بعد خروج الأبناء أو وفاة أحد الزوجين.. فحتى عام 2005 كان ربع البيوت في بريطانيا يضم عائلات من شخص واحد.. ولكن هذه النسبة وصلت اليوم الى 40% من البيوت إما تضم رجلاً متقاعداً أو أرملة عجوزاً أو شاباً اعتزل العالم الحقيقي للإبحار في عالم النت ومواقع التواصل الاجتماعي!! وهذا الظاهرة ملاحظة أيضاً في الولاياتالمتحدة حيث كانت البيوت التي تضم شخصاً واحداً لا تتجاوز 3% عام 1950 وارتفعت اليوم إلى 32% في ضواحي المدن.. أما أواسط المدن (أو مايعرف باسم الداونتاون) فتحولت فيها 76% من الشقق إلى مساكن خاصة بالعزاب والمتقاعدين ومثيلي الجنس... ولا يعود السبب كله إلى ارتفاع عدد المسنين بل وأيضاً إلى تغير وسائل الاتصال ونمط العيش في المدن الحديثة.. ففي الماضي كان الإنسان يخرج من منزله للعمل والتواصل وقضاء احتياجاته الخاصة.. أما اليوم فأصبح بإمكانه فعل ذلك عبر شاشة الكمبيوتر ودون الحاجة لمغادرة المنزل (ناهيك عن وصول كل الخدمات إليه طالما استمر في دفع الفواتير).. والمدهش فعلاً أن اختراع التلفزيون شكل انقلاباً في حياة الناس وتغليب كفة البقاء في المنزل على الخروج للشارع.. بل تسبب حتى في رفع نسبة العزلة داخل البيوت نفسها حيث اتضح أن الأزواج في استراليا (مثلاً) يشاهدون التلفزيون لثلاث ساعات يومياً مقابل 12 دقيقة فقط للحديث مع الزوج الآخر.. أما في أمريكا فيمضي الأطفال أكثر من 20 ساعة في الأسبوع في مشاهدة التلفزيون مقابل 38 دقيقة فقط للحديث مع الوالدين.. واليوم رفعت الانترنت من نسبة المعتزلة الجدد حتى بين الآباء والأطفال (وانظر لحال أطفالك مع الآيباد) وقدمت موقع التواصل الاجتماعي فرصة عقد صداقات افتراضية دون الحاجة لمغادرة غرفة النوم .. وهذه الظاهرة أصبحت عالمية حيث توجد في اليابان كلمة هيكيكوموري (وأقرب ترجمة لها هي الانكفاء على الذات) التي أصبحت تطلق على المراهقين الذين يحبسون أنفسهم في غرفهم ولا يخرجون منها إلا للحمام.. وتعود عزلتهم إلى تعلقهم بألعاب الفيديو ومواقع النت لدرجة انسحابهم من العالم الحقيقي وعيشهم بالكامل في الواقع الافتراضي (ويقدر عددهم مابين 100 ألف إلى مليون حالة بحسب ساعات الانطواء)!! .. باختصار؛ لأول مرة في التاريخ، أصبحنا نعيش في عزلة متزايدة عن الواقع الحقيقي (بما فيهم أفراد العائلة ومن يسكن أمامنا في الحي) ولكننا في المقابل نملك آلاف الأصدقاء في العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي!!