المدينة -السعودية (1) كان ينشر وصاياه النفسية بوعي متقد.. للسمو بالذات الإنسانية بعيدًا عن مكامن هبوطها وتأزمها.. كان جادًا في إيصال رسائله التوعوية، التي من شأنها الارتقاء بالوعي الذاتي من أجل صياغة نظرة داخلية صحيحة للكون والإنسان والحياة، تساعد على إيجاد شخصيات متماسكة قادرة على العطاء والصمود والإبداع. صوت هو ينبثق من إذاعة (الرياض) كل مساء اثنيني مفعم بالنداءات النفسية الملحة.. للتواصل مع عدد هائل من أسئلة الذات القلقة.. المتأزمة.. الموتورة. إنه -بلا شك- المستشار النفسي د. أحمد الحريري وبرنامجه (الأهم) المستشار النفسي. (2) ولكن المفاجأة غير السارة حقًا مع إطلالة هذا العام الهجري الجديد، هو توقف (البرنامج) دون أسباب مقنعة، سوى الرغبة في إعادة (جدولة) للدورة الإذاعية الجديدة، ورغم استمرار بعض برامج المستشارين الآخرين، ممن تزدهي بهم إذاعة (الرياض).. مما سبّب صدمة كبرى لمن كانوا يترقبون التاسعة من مساء الاثنين من كل أسبوع، لبث أنينهم وحنينهم.. وهم في الحقيقة كثير.. كثير. (3) أزعم أن أهمية هذا (البرنامج) تكمن في عدة (جوانب)، منها حاجة المجتمع لمثل تلك الاستشارات، مع ارتفاع نسب تعاطي المخدرات واكتئاب بعض الأفراد المفضي للانتحار، وحالات العنف الأسري مما يُسبِّب ضياع الأبناء، ومظاهر الشك والريبة التي أصبحتا معيارين حاسمين في تحديد علاقة الفرد بالموضوعات والأشياء والناس (لدينا)، مما أنتج تلك النماذج المتطرفة المهووسة بإلغاء الآخر وإقصائه.. إضافة إلى تراكم بات واضحًا للشخصيات النمطية الساكنة في مجتمعنا، والتي ترتهن دائمًا للثابت والساكن، رغم تحولات العالم، وحراك الحياة. ومن جانب آخر، فإني أظن أن مجتمعنا جرب الكثير من الخطابات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، ولكنها لم تفض في كثير من الأحيان إلى مخرجات مثمرة نحتاجها بالفعل، بسبب الطريقة الخاطئة في (تناول) تلك الخطابات، فالخطاب الثقافي ظل رهينًا إما لنداءات فنية على مستوى النصوص الفنية والاتجاهات النقدية، دون اهتمام بالارتقاء بالذهنية الفكرية، التي ظلت حبيسة في أتون عهود بائدة سحيقة، وإما لحاجات نخبوية، لا تلتفت إلى النداءات الصارخة للشعبي والمجتمعي عامة.. كما أن بعض معطيات الخطاب الديني ظلت رهينة لقضايا عقدية، مُسلَّم بها -من الأساس- وسط مجتمع مُوحِّد مُتديّن (أصلا)، وإما لفتاوى (شخصية) هامشية لا (تخدم) المصالح الكلية، مما (وسع) مساحة المفارقة في ذهنية الوافدين والزائرين لهذه الأرض بين ما رسموه في خيالاتهم لمجاوري بيت الله الحرام ومسجد نبيه الكريم، وما وجدوه واقعًا (بالفعل)! .. كذلك، فإن الخطاب النفسي المعرفي الذي (يشتغل) عليه د. الحريري، يصبح ضرورة (ملحة) وسط مجتمع لا يعرف معظم أفراده كيف يكتشفون قدراتهم؟ وكيف يستفيدون من أوقاتهم؟ وكيف يصلون إلى حالات الصفاء الذهني المحفزة على الإبداع والإنجاز؟ وكيف يستمتعون بحياتهم؟ وكيف يديرون أزماتهم الأسرية والعملية والمادية؟!. (4) الخطاب النفسي المعرفي في برنامج المستشار النفسي، يشف عن استكناه عميق لغايات الدين الكبرى، وفهم متزن لمعطيات النظريات والمفاهيم النفسية الغربية، بحيث لا يصطدم هذا الفهم مع القناعات الفكرية والاجتماعية لدينا، فتنعدم الفاعلية ويقل الأثر! (5) المستشار النفسي يتألق في اللحظة التي يضعف فيها لدينا أداء (عيادات) الطب النفسي، والتي اقتصر نشاطها، في معظم مشاهدها على منح الأدوية (المخدرة) لمظاهر المرض بسخاء بالغ، وفي اللحظة التي نشاهد فيها كثرة بالغة دون رقابة في العلاج بالنصوص القرآنية والرقى الشرعية.. وهذا التألق يضفي على خطاب المستشار النفسي أهمية (باذخة) أخرى. (6) ولذلك، فإني ومعي الكثيرون نناشد القائمين على إذاعة (الرياض)، والمنظومة الاعلامية كلها في (إعادة) برنامج المستشار النفسي لمستمعيه ومحبيه، الذين كتبوا معي -جميعهم- مادة هذا النثار، ليكون أحد برامج الدورة الاذاعية الجديدة، التي لا يمكن الاستغناء عن تجلياتها المعرفية المؤكدة! فالبرنامج (بجد) كان إضافة رائعة للعمل الإعلامي القادر على تحقيق أهدافه بسمو فكر وبلاغة منطق. [email protected]