أزدادُ سعادة وتفاؤلاً كلما دُعيت إلى ملتقى عالمي يُعنى بالثقافة، وسط هذا العالم الذي لم يعد يعتني بشيء أكثر من عنايته بالمال... والمزيد من المال! لكني لا أستطيع أن أخفي قلقي من لافتة: (صناعة الثقافة)، إذ لا يطمئن قلبي إلى براءة الثقافة المقرونة ب «الصناعة» أو «التجارة». أدرك بأن ما أطلبه أقرب ما يكون إلى الجنوح الطوباوي العسير في هذا (العصر) المادي. «تتجير» العالم و «تسعير» الكون، هو ما نخشاه من خلال العولمة السلبية المستهلِكة لا العولمة الإيجابية المانحة والمضيفة لصورة الكون ألواناً أُخرى تضاف إلى الألوان الأساسية لثقافات الكون وحضاراته. لم تعد نزعة بيع الكون وشرائه تقتصر على ما نأكل ونلبس ونركب فقط، بل حتى على ما نعتقد ونتذوق ونفكر ونتأمل. حتى الدعاة والوعاظ الدينيون الذين كانت لهم قيمة من قبل، أصبح الآن لهم ثمن! عاشت كتلة من شعوب العالم فترة من الزمن مضت تحت هيمنة نظام يسعى إلى تثقيف السلعة، أي حشوها مهما كانت بريئة وبسيطة وتلقائية بمفاهيم وشعارات تخدم (نظاماً) لا يترك شيئاً إلا أدلجه. وانقضى زمن تثقيف السلعة، وجاء الآن زمنٌ آخر بمفاهيم وشعارات تخدم (نظاماً) آخر لا يترك شيئاً إلا استربح منه. فهو لا يريد فقط أن يُحرّر السلعة من الأدلجة ويجعلها سلعة فقط، بل زاد في نزعته السلعوية إلى درجة أنه يريد أن يجعل الثقافة أيضاً سلعة. أي أننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و «الثقافة» في كلتا الحالتين هي الضحية. ففي الحقبة الأولى كانت محشوة بمضامين فائضة، وفي الأُخرى فُرّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية والربحية. اليونيسكو ومعها الدول ذات الثقافات والحضارات العريقة والموغلة في القدم، تكافح من أجل مفهوم بسيط كلنا يجب أن نكافح من أجل ترسيخه في عقل العالم. إنه مفهوم الحفاظ على التنوع الثقافي، الذي لأجله نشأت «الاتفاقية الدولية للتنوع الثقافي»، التي صوّتت عليها في عام 2005 بالتأييد 148 دولة على رأسها فرنسا، وبالاعتراض دولتان فقط هما الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل (!)، ولا تزال الدول الأعضاء في المنظمة تكابد من أجل عدم إجهاض هذه الاتفاقية من لدن تُجار الثقافة الكونية. يحمل لواء هذه المكافحة عدد من الدول ذات الثقافة المتينة، سعياً نحو الحفاظ على عالمنا في صورة متعددة الأطياف، وليست صورة ملونة بلون واحد فقط. إننا نوشك، إذا استجبنا أو استكنّا إلى نزعة تسليع الثقافة، بأن نتلقى الثقافة مستقبلاً في «معلّبات» كُتب على غطائها تاريخ الصلاحية! نعم إن الرأسمالية تساهم في عولمة الثقافة وانتشارها (الثقافة التي تشتهيها فقط وتضخّها برأس المال)، غير أنها للأسف تساهم إزاء هذا بصنع ثقافة متشابهة أحادية وهشّة، لكنها مربحة ومنعشة لرأس المال النهم. هنا يكمن الصراع الذي يقلقنا... بين ثنائية الثقافة المنتجة للإبداع والثقافة المدرّة للأرباح!