أن تشاهد رجلاً بكامل صحته البدنية والعقلية يجلس مذعوراً أمام الكاميرا التي تصوره، أن يردد أمامها كلمات يشتم بها نفسه وبلده وأهله يمليها عليه من يقوم بتصويره، أن تشاهده يصف نفسه بالحيوان والحمار والحقير وبأن الآخر سيده، أن تشاهده يحني رأسه بمنتهى الذل ليقبل يد من أهانه وشتمه وجعله يردد كل تلك الشتائم بلا كرامه، أن يبالغ معذبه فيجعله ينحني أكثر ليقبل قدمه ويكرر إهانته وشتمه وذلك يردد وراءه الإهانة وهو يقبل القدم المتسخة، أن يتجرأ مرتكب تلك الجريمة على رفعها على موقع (يوتيوب) وأن يفاخر بها ويرسلها لأصدقائه ومعارفه، أن تشاهد أنت ذلك المشهد الكئيب وتكتفي بمط شفتيك وهز رأسك استياءً، أو أن تتفوه بجملة ساخطة ثم تعود لمتابعة ما كنت تفعل وتنسى ما حصل، أن تكون ذلك الشخص فأنت بلاشك شريك في الجريمة!. مقاطع الفيديو المنتشرة لا تكشف لنا مدى ما بلغناه من عنصرية واحتقار للآخر فحسب، لكنها تكشف لنا مدى التشوه الرهيب الذي لحق بآدميتنا وفطرتنا الإنسانية، صحيح أن رجل العصور الجاهلية كان يغزو ويسلب ويقتل ويحتقر الآخر المختلف، لكنه لم يكن يتلذذ بتعذيبه وإذلاله بهذا الشكل المهين أمام الناس. التلذذ بالتعذيب والجرأة على نشره والمفاخرة به أمام الآخرين إشارة خطر كبيرة جداً كفيلة بإثارة الذعر لدى أي مفكر أو عالم اجتماع، أنا لا أتحدث هنا عن صورتنا أمام المجتمعات الأخرى، ولا عن المطالبة بقوانين تحمي الضعفاء رغم أهميتها، أنا أتحدث عن ذلك السواد الهائل الذي غطى قلوبنا وعقولنا، عن مدى القبح والعفن الذي تربى داخلنا وتآلفنا معه حتى لم تعد تثيرنا إهانة آدمي مستضعف بهذا الشكل المهين. بل وربما وجد من بيننا من يشرعن هذه الجرائم ويبررها. ألم يلمح أحدهم بجواز التحرش بالكاشيرات من قبل؟ وألم يصرح الآخر وهو المحسوب على رجال الدين ويتوعد من يقدن السيارات بأن (الدرباوية لن يقصروا معهن)؟. ألم يقتل الآخر ابنته ذات الخمسة أعوام لأنه يشك في سلوكها الأخلاقي؟ بالله أي مسافة كونية شاسعة بين هذه الثقافة وبين القيم النبوية التي يبثها حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها؟. ليست المشكلة في التمادي في التحرش بالضعفاء والتمتع بإذلالهم وتعذيبهم، لكن الكارثة الحقيقية في ردة فعل المجتمع الفاترة واللامبالية بل والمباركة في بعض الأحيان، من الممكن أن تظل تلك الحوادث فردية على كثرتها، لكن تواطؤ فئات عريضة من المجتمع على شرعنتها كأنه يقول (تعال نتحرش ساعة) أو على تجاهلها في أفضل الحالات نذير بشرخ كبير يتعاظم في بناء المجتمع، نذير سيل هادر من التفكك والتشظي وأخشى أن تكون هذه قطراته الأولى التي لم يلتفت لها أحد!.