سمير عطا الله - الشرق الأوسط اللندينة إذا كنت صحافيا فيجب أن تضع جانبا مقاييسك الأخلاقية إذا ما صادفت شخصية شهيرة: انس كل شيء وتقدم وعرّف بمهنتك ثم ابدأ بطرح الأسئلة. هذا، إذا كنت صحافيا. أما إذا كنت صحافيا وساذجا ولم يعلّمك الدهر أنك لن تغير في سلوك الناس شيئا، فتصرّف مثل أي فلاح. تظاهر بأنك لم تعرف أن الرجل قبالتك في بهو الفندق هو برويز مشرف، ودع السبق الصحافي لسواك. في بهو فندق آخر في نيويورك، عام 1974، كنت مع اثنين من أشهر صحافيي وسياسيي لبنان، غسان تويني ومروان حمادة. قال مروان، بفضوله المعهود «انظروا من هنا.. سلفادور دالي». لم أنظر. كان الرجل ينفرني، على الرغم من معرفتي بأنه أحد عمالقة الرسم الحديث. شعرت باشمئزاز وأنا أقرأ عن صداقته مع غارسيا لوركا، شاعر إسبانيا، الذي قتله الفاشيون. لا أدري إن كان صادقا في ما روى، لكنه كان منحطا، وعاش حياة منحطة أيضا، أو مجنونة، أو شبه مجنونة. قبل فترة تلقيت دعوة للاحتفال بمتحف دالي في فيغوراس، ربما بطريق الخطأ. هل أعدت النظر في أعماله بعد كل هذا الوقت؟ لا. أعدت النظر في رؤيتي للفن الحديث. تعودت أن أحب بيكاسو وفناني العراق الجدد وفناني لبنان. لكنني لن أذهب لمشاهدة أعمال دالي حتى لو كان في المبنى المجاور. على أنني عندما تلقيت الدعوة تساءلت ما هو السر في الأمر: أن يقلب الإسبان مسيرة الرسم، وإلى حد ما، مسيرة الأدب؟ أولا بابلو بيكاسو ثم هذا الغرائبي دالي، وفي الأدب ماذا فعل سرفانتس؟ لقد جعلنا ندهش للغرابة. ابتكر طواحين دون كيشوت وتركها لنا مثلا كما ترك بيكاسو تهشيمه للصورة الكلاسيكية. واحد جعل العالم يحب الخيل، وواحد جعله يحب التشويه. بدل «الجيوكندا» و«فينوس» صارت اللوحة امرأة بنصف صدر ونصف رأس. ودون كيشوت لم يعد نموذج المهابيل، بل صار نموذج الحالمين، بل نموذج الأخلاقيين الذين يعرفون أنهم يضربون بسيوفهم طواحين الهواء. حضرت ما وصلت إليه من أفلام ومسرحيات دون كيشوت. وأعتقد أنه عاش في عالم أجمل من عالمه ومن عالمنا أيضا. فالحقيقة ليست ضرورية دائما: برويز مشرف، حقيقة. مقتل بي نظير بوتو منسوفة بألف كيلو ديناميت، حقيقة. دعاة الموت على التلفزيونات العربية، حقيقة. أنا أفضل على هذه الحقائق طواحين دون كيشوت وحمار رفيقه باكو. وإذا رأيتهما في بهو فلن أشيح النظر.