كنت أعادي مفهوم الانتساب للحصول على الشهادة الجامعية، لأنني أومن أن الجامعة بيئة أكثر منها مبانٍ للمحاضرات والحصول على الشهادة العلمية. تبنيت هذا المفهوم بناء على ما عايشته أثناء دراستي الجامعية في الولاياتالمتحدة. كنا نحضر المحاضرات في مختلف مباني الجامعة، ونشجع فرق الجامعة، ونجتمع في اتحاد الطلاب، وهناك من انضموا إلى الأخويات التي تبني شخصية المشاركين وتسهم في ربطهم برباط يستمر مدى الحياة، نشارك في الاحتفالات، ونقدم المبادرات لتطوير كل شيء. يقضي الطالب في الجامعة أكثر من ثماني ساعات كل يوم، لأنه يستمتع بذلك، إضافة إلى التزاماته المنهجية واللامنهجية. أنشطة تمارس في المكتبات والملاعب وقاعات المحاضرات والنوادي المنتشرة في كل مكان. كلما كانت مساهمات الطلبة في الجامعة أكثر، كان مركز الجامعة أعلى في التصنيف. كانت هناك مشاركات للطلبة في كل شيء حتى إدارة الجامعة والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تخصهم. أظهرت تلك السنوات مهارات مميزة لدى العديد من الطلبة السعوديين. مهارات القيادة والتنظيم والعلاقات العامة والمحاماة برزت بسبب المشاركات المختلفة التي لا يعرف الكثير منا عنها أكثر من تنظيم اليوم الوطني للمملكة وهو نشاط يحدث في كل مكان تقريباً. على أن محدودية الدعم الذي يحصل عليه الطلبة السعوديون من الملحقيات التعليمية أسهمت في الإحجام عن مشاركات مهمة في نوادي الحوار والمشاركة في عرض مفاهيم وقيم وسياسات المملكة وإقناع الفئات التي يعيشون بينها بما نتبناه من مواقف. هذه النشاطات التي تجعل الابتعاث حالة من التأثير الجارف على مفاهيم وأفكار ورؤى العالم الذي لا يزال يرانا بشكل خاطئ. أتمنى أن تعمل الملحقيات على تكوين برامج لهذا الدعم وتنظم منافسات بين المبتعثين لحفزهم ليكونوا سفراء حقيقيين لبلادهم، من خلال ما يغيرون من المفاهيم وينظمون من الأنشطة الإيجابية. محدودية نشاط الطلبة السعوديين في دول الابتعاث ترجع كذلك إلى سلبية الطلبة أنفسهم في المشاركة في الأنشطة التي تحدث في جامعاتهم ومجتمعاتهم، وهي نتيجة حتمية للبيئة التربوية التي جاء منها هؤلاء المبتعثون في مدارس التعليم العام. يعامل الجميع العملية التربوية على أنها ""شر لا بد منه""، وظيفة يلزم الشخص بأدائها لينال راتبه آخر الشهر. انعدام الأنشطة التي تكوّن شخصيات الطلبة وتشجعهم على المشاركة وتقرب العملية التربوية من قلوبهم، سبب رئيس في تكوين الشخصية السلبية للمبتعث السعودي الذي يُحجم عن كثير من العلاقات والأنشطة الاجتماعية والعلمية والخيرية والثقافية في دول الابتعاث، ويكتفي بعلاقاته بأبناء بلده وسهراتهم التي يسيطر عليها ما يفعلونه هنا في السعودية. المؤسف أن دورات التأهيل للابتعاث لا تعالج قضية السلبية التي تسيطر على أبنائنا في الخارج، ولا تدفع بهم إلى المشاركة الفاعلة المؤثرة في مجتمعاتهم، وتركز على جوانب دينية وأمنية مهمة ولكنها ليست كل شيء. من المهم أن يتم التعريف بكل جوانب الابتعاث، والدفع بالمبتعثين لجعل هذه المرحلة أكثر مراحل حياتهم حيوية واستفادة وقدرة على التغيير في مفاهيم مجتمعات الدول التي يدرسون فيها. كتبت هذا وأنا أشاهد استغراب ابني من حجم فريق كرة القدم الذي يمثل إحدى الجامعات والفرقة الموسيقية التي تشارك في كل الحفلات والميزانية التي ترصدها الجامعة للأنشطة البعيدة عن المناهج الدراسية. إن حجم النشاط الذي يشارك فيه الطالب في الجامعة الأجنبية والتغيير الذي يمكن أن يحدثه في مجتمعه الصغير هو واحد من أهم الاعتبارات التي تضعها أغلب الجامعات في أولوياتها، بل وتقدم المنح التعليمية المجانية بناء عليه بغض النظر عن الوضع المادي للمتقدم للدراسة. يؤسفني أن أرى الكثير من طلبة جامعاتنا يذهبون إلى الجامعة لحضور المحاضرات، ويركزون جهدهم وتفكيرهم على تلك الجزئية فقط من الحياة الجامعية، التي تنتهي بعد أربع أو خمس أو ست سنوات بكمٍّ من المعلومات المكتسبة في مجال معين فقط. يخرج الطالب من جامعاتنا وهو لم يكتسب أي مهارات اجتماعية أو ثقافية أو سلوكية، لم يشارك في تنظيم أو قيادة أي نشاط في الجامعة، لم يشارك في أي فريق أو مجموعة عمل مدني أو خيري، لم ينضم إلى حلقة نقاش أو يشارك في تنظيم مؤتمر، بكلمة واحدة لم يتجاوز مقعده الدراسي. أي أنها مرحلة يمكن أن نعتبرها ثانوية مطورة. تستمر الحياة الجامعية السلبية التأثير، لتصدق بحقها إحصائية الدكتور علي الموسى الذي توقع أن 99 في المائة من أساتذة الجامعات لدينا ليست لديهم المهارات الكافية للعمل في جامعات أمريكية. السبب هو أن الحد الأدنى من متطلبات ومحفزات الفكر والنشاط الجامعي في جامعاتنا مفقود لأن الجامعة في نظرنا تتكون من أساتذة وطلبة ومبانٍ ومناهج فقط.