صدق دزرائيلي وهو واحدٌ من أعظم من عرفت بريطانيا من رؤساء الوزراء، حين قال: "الانتقادُ سهلٌ جدا، لذا من الطبيعي أن يكون المنتقدون أكثر كثيرا من المبدعين". لقد قامت الانتقادات وبكثير من السخرية على بعض عضوات الشورى لما تقدمن بتوصية ضمن دراسة أعددنها عن سياقة المرأة للسيارة .. وهو موضوع من أكبر مواضيع أوهامنا التي صنعنا منها مشكلةً كان يجب ألا تكون. لا يهمني الآن التطرق لموضوع سياقة المرأة، فلي رأي مكتوبٌ وواضحٌ في الموضوع. ولكن الذي أناقشه هو: لماذا نحب أن نسفّه رأيَ الآخرين خصوصا إن كانوا عاملين .. وأعطوا الموضوع جدية من الدراسة، حتى لو لم تعجبنا؟ فالجدية في البحث أمرٌ محمود، ومن يقدم توصية أو بحثا لا يُلزم الناس بها، بل منطقيا في آلية الاقتراح والتوصية، تلمس الرأي الآخر عبر التصويت، وهي أفضل آلية على الإطلاق، فإن ووفق عليها من الأغلبية فهي إذن دراسة حققت هدفها، وإن رُفِضت فقد ثبت حتى لواضع الدراسة والتوصية أنها غير ملائمة .. أليس هذا منطق عادل؟ نعم، نلوم من يخرج عن الصف، ويطالب خارج المسلك المنتظم، ويربك المجتمع ويشعل نقاشات وخلافات لا تنجح إلا في تعميق صدع الانشقاق في الأمة .. وهنا لا يكون العلاج إلاّ بالدراسة المتعمقة كما فعلت عضوات الشورى، ولهن الحق أن يرينه أمراً مهما وحيويا، حتى لو لم ترَهُ أنت ولم أرَه أنا، ولكنه تم بالقنوات العادلة بلا ضجيج ولا إثارة ضمن توصية مشفوعة ببحث خالٍ من صيحات الحماسة وتصرفات خارج المنظومة اللياقية والفكرية، لذا كان يجب أن نقول للعضوات شكرا أنكن لم تثرن ضجة في المجتمع وهي سهلة جدا ومفرقعة جدا، ولكنكن مضيتن بهدوء الباحثات، وتنظيم المتحضرين، واجتهدتن في موضوع آمنتن بأهميته، ولكن لم تثرن ضجة حوله، ولم تلزمن به أحداً بل وضعتنه ضمن النقاش ولا تملكن إلا سماع الموافقة أو الرفض .. لذا نقدر لهن هذا الموقف. تعجبت أن أسمع وأقرأ لعقول أحترمها تسخر أنهن يُضِعْنَ الوقتَ على أمورٍ تافهةٍ والبلد محتاج لأشياء أهم .. ولنفرض أن هذا صحيح، فهن أيضا عملن بالمنطق والحرص نفسيهما على وطنهن، ومن وجهات رأي يؤمن بها تماما، فإن كنتَ أنت وكنتُ أنا نعتبر قيادة المرأة للسيارة أمرا تافها وفي غير محله ولا نحتاجه، من حقهن أن يرين العكس، وبدراسات موضوعة بلا عبث حضوري ولا إطلاق ألعاب نارية في السماء .. لاعتقادهن أنه موضوع من الأولويات. وأجمل ما في الموضوع أنهن لا يردن ولا يستطعن ضمن آليات الدراسات والتوصيات المقترحة أن يلزمنك أو يلزمنني، وهذا أقصى ما تريده أنت وأريده أنا .. ألا يُفرض علينا شيءٌ فرضا، إنما ضمن موافقة أو رفض عام. ولدى البعض منا الميل التلقائي للهجوم على العنوان، وليس قراءة ما بين غلافي البحث .. ونهجم، نحتدّ، ونسخر بدون حتى أن نقرأ لهن، ونعطيهن الفرصة العادلة كما فعلن هن ضمن آلية التوصيات، والتصويت بقراءة ما كتبن، والبحوث الاجتماعية الأكاديمية والتطبيقية التي دعمت بحثهن، وهنا يمكن الرفض بالاستدلال بنصوصهن وأدلتهن، أو أيضا الموافقة ضمن ذات النصوص وذات الأدلة. ثم إن الأهمية وعدم الأهمية تكون "حالة ذهنية"، فكثير من الأشياء بدت من الوهلة الأولى غير مهمة ولا نحتاج إليها وهي فيض زيادة، ثم مع الزمن تكون من ضرورة الضروريات، كنت أقرا في تاريخ أنثربولوجيا العقل المخترع في كل حضارة، فوجدت أنه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر طالب مدير وكالة براءات الاختراعات الأمريكية بقفل المكتب؟ ليه يا أخ؟ يقول الحبيب: "لم يعد هناك شيء يُخترَع، فكل ما يمكن أن يُختَرع قد أُخْتِرِع!".. يا سلام، قفّلنا. قال نرثوب واخن عالم ديناميكا الهواء في أول القرن العشرين ما معناه: "خل عنك الخزعبلات، لا يمكن منطقا ولا علما أن يطير جسدٌ جامدٌ في الهواء إن لم يكن عضلا حيا وجناحين متحركين. بعد أقل من ست سنوات كان الأخوان "رايت" يحلقان بطائرتهما! فقد يكون ما ننكره الآن، الأهم الآن، أو فيما بعد إن سمحنا له بالحصول. هل تتصور حياة بلا جوال؟ بلا إنترنت .. أظن المثال قد وضح! يا مرحبا بكل من يبحث ويجتهد في أي شيء يراه ويؤمن بأنه واجب البحث، دون أن يشغل الناس به ويثير الجدل العريض، ثم لما تخرج أفكارُه مكتوبة يتركها لغيره ليتبناها أو يردهّا. لم تُبنَ الحضارات عبر التاريخ إلا بهذا النوع من نمط التفكير والبحث المفتوحين .. ولم تسقط حضارات عبر التاريخ إلا لأنها وأدت بالعناد وقوة الانتقاد أنماط التفكير والبحث.