د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف - الجزيرة لفت انتباهي في الآونة الأخيرة نشر إحدى الجامعات في المملكة أنها تقدمت في الترتيب على جامعات أخرى في أحد التصانيف الدولية، علماً بأن الجامعة الأعلى تصنيفا من الواضح أقل من حيث الحجم والإمكانيات وربما المستوى من الجامعة التي وردت خلفها في التصنيف. وكان ذلك لافتا لنظر المتابعين الذين لا يعرفون ربما حقيقة هذه التصانيف التي أعارتها بعض جامعاتنا أهمية كبيرة. وللمعلومية فمصداقية هذه التصانيف محل جدل كبير على مستوى العالم، فكثير من الدول لا تعيرها أهمية كبيرة لأنها لا تقدم ولا تؤخر في المستوى الحقيقي للتعليم. بل إن معظم الجامعات الراقية المتميزة التي ترد أسماؤها في معظم أدبيات التصنيف التي تصدر في الصين وإسبانيا وأمريكا وغيرها لا تهتم بها، فهي جامعات مستقرة بإدارات ناجعة، فمصداقية الجامعات يبنيها خريجوها، وهيئات التدريس والبحث فيها، ومخرجاتها العلمية، لا شركات التصنيف. فأولاً، هناك صعوبة في مقارنة جامعات في دول مختلفة ثقافيا، حيث لا يمكن علميا بناء معايير تصنيف موضوعية عابرة للثقافات، والمجتمعات، والدول، بحيث تكون تلك معايير علمية دقيقة يعتمد عليها، ولا يمكن تفنيدها، فهناك صعوبة في مقارنة جامعة في الشرق بأخرى في الغرب لاختلاف السياقات الثقافية. ثانيًا، تعتمد كثير من التصنيفات على إحصائيات كمية رقمية لا كيفية أمور مثل: عدد الطلاب، والخريجين، وطلاب الدراسات العليا، ونسب الأساتذة للطلاب، نسب الاقتباسات من الأبحاث، وعدد الطلاب الوافدين من الخارج، أو الباحثين الخارجيين في الجامعة وغيرعا، وهذه معايير غير موضوعية وغير علمية. فعدد العلماء، مثلاً، في جامعة مثل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعدد طلاب الدراسات العليا فيها قد يفوق بعض أعلى الجامعات العالمية تصنيفا، لكن مفهوم العلم هنا يعني العلم الشرعي، وهو مفهوم خاص بثقافتنا، ويختلف عن مفهوم العلم الطبيعي في جامعات أخرى. ولو عدنا الاقتباسات من أبحاث هذه الجامعة لقارعت أفضل الجامعات، ويوجد في بعض جامعات الخليج بها نسب كبيرة من الأساتذة الوافدين لأنها جديدة نسبيا ورواتبها مغرية. ثالثاً، لو تركنا ذلك لمعيار يتبادر لذهن البعض بأنه الأهم، وهو حصول منسوبي أو باحثي جامعة ما على جوائز عالمية فهذا أيضًا غير دقيق لأن حصول عالم ما على جائزة نوبل وهو على رأس العمل في جامعة لا يعني أن هذه الجامعة هي التي خرجته أو صقلته، أو حتى أسهمت في تطوره، بل إن ذلك يعني فقط أنها قدمت له مركزاً علمياً تصادف مع حصوله على الجائزة. ولنأخذ مثلا عالما مثل سايمون هريربت Simon Herbert وهو من أكثر العلماء حصولاً على جوائز بحثية في مجالات مختلفة، منها جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 1978م، وجائزة أي أم تورنق في علوم الحاسب، وجائزة الجمعية الأمريكية للذكاء الصناعي، نجد أنه حصل على الدكتوراه بتميز من جامعة شيكاغو، ثم قضى تسع سنوات باحثا في جامعة الينوي، ثم انتقل للتدريس في معهد كارنيقى في بيتسبرغ، فهل يجوز أن ينسب تميزه إلى جامعة كارنيقى ميلون التي استقطبته لتميزه في الجامعات السابقة لأنه حصل على نوبل على رأس العمل فيها؟ ولنأخذ أيقونة العلم ذاته، مضرب المثل في العبقرية، أينشتاين ذاته، فقد ولد في ويرتمبيرق في المانيا وتخرج في ثانويتها، ثم رحل إلى ايطاليا حيث حصل على البكالورويوس من آراو، ثم عمل باحثا في مجال الفيزياء والرياضيات في معهد البوليتينك في زيورخ, وبها حصل على شهادة الدكتوراة في عام 1905، ثم درس في بيرن وبراغ قبل أن يعود لبرلين كمدير لمعهد كايزر ويلهلهم ثم رحل لأمريكا عام 1933 لأسباب سياسية وعمل في جامعة برنستون، فلمن تنسب جائزة نوبل التي حصل عليها في عام 1921م؟ هؤلاء ليسوا استثناء لأن سير جميع من تميزوا تبرز أنهم عملوا في معاهد وجامعات عدة. كما أن شركات التصنيف شركات تجارية خاصة أو شبه خاصة تسعى للمال بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا مبرر كاف للطعن في مصداقيتها. وفي بعض الدول يؤخذ التصنيف في الاعتبار عند اعتماد الدعم الحكومي للجامعات ومنها أمريكا، ولكنها تعتمد التصنيفات الأمريكية فقط، تلك التي تعرفها وتشرف عليها وتثق بمصداقيتها، ولا تأخذ بتصنيف صيني، أو إسباني أو غيره. وهذا ما قصده أحد الأكايميين في بريطانيا عن التصنيف في بلده، وهو دنكن روبنسن، حيث كتب في مجلة النيوستيتمان في سبتمبر 2010م بعنوان "حقيقة التصنيف الجامعي" حاول فيه استجلاء الحقيقة حول هذا الأمر فيما يتعلق بالجامعات البريطانية. وذكر أن تصنيف كيو أس Quacquarelli Symond الذي صدر قبل أسابيع جاء متناقضا كليا مع تصنيف التايمز للجامعات العالمية THES ومع تصنيفات محلية لصحيفتي التايمز، والقارديان. أي أن التصنيفات قلما تتفق على سلم موحد أو ترتيب معين للجامعات بل إن تصنيفاتها تختلف وتتناقض. فأربع من أعلى الجامعات تصنيفا في العالم حسب كيو أس كانت بريطانية، وسبقت جامعة كيمبردج جامعة هارفارد في التصنيف، وجامعة كلية لندن وردت قبل أكسفورد، وصنفت 19جامعة بريطانية ضمن أفضل جامعات العالم. بينما على تصنيف THES لم تأت إلا خمس جامعات ضمن أفضل 50 جامعة في العالم. وأتى ذلك أيضا متناقضا مع التصنيفات المحلية للجامعات بما فيها التصنيفات الأهلية للقارديان والتايمز التي صنفت اكسفورد كأفضل جامعة بريطانية، بينما صنفتها التصنيفات العالمية السابقة خلف كمبريدج وخلف جامعة كلية لندن. وبينما سبقت جامعة درم جامعة كلية لندن بمركز واحد في تصنيف التايمز أوردها تصنيف THES خلفها بثمان وثمانين مرتبة. ويعزو روبنسون هذه الاختلافات الواضحة في التصانيف للتباين الواضح في معاييرها وتدني مصداقيتها. ولا يختلف اثنان أن تعليمنا الجامعي يعاني كثيرا، وعلينا أن نسعى دائما لتطويره، وأفضل طريقة لتقييمه ليست التصنيفات ولكن استفتاء واختبار الخريجين، أي تقييم المخرجات بشكل مستمر وعلمي وموضوعي، كما أن جامعاتنا تحتاج لكثير من الانضباط في قراراتها وأهمها قرارات مجالس الأقسام والكليات التي يمكن أن تفحص بشكل دوري عشوائي للتأكد من سلامتها. وكذلك مراقبة مراكز البحوث والمؤسسات البحثية الأخرى ومحاسبتها على مخرجاتها من حيث المستوى والجودة لا العناوين والعبارات المضخمة. وما دمنا بصدد الجودة فقد صرفنا مبالغ ضخمة عليها لم تنعكس كما ينبغى على العملية التعليمية، بل إنها وللأسف أسهمت في بعض الأحيان في تشويه العلاقات داخل الكليات نتيجة لسعي البعض للاستئثار بالأموال المغرية. ولو دققنا في عملية الاعتماد الأكاديمي ذاتها التي كتبتها مؤسسة أجنبية، على ما أعتقد، فهي بحد ذاتها تحتاج لاعتماد، فقد كتبت بلغة متوسطة المستوى ملتوية المعاني، ولكن يشفع لها كونها أجنبية!!! وأعتقد أنه بإمكاننا نحن، إذا لزم الأمر، أن نطور معايير للجودة والتصنيف خاصة بنا فنحن أعلم بحاجاتنا وأوضاعنا وأوضاع جامعاتنا. والاعتماد دائماً على الخارج ليس صائباً دائماً. ويكمن الخطر الحقيقي في أن يكون الاهتمام بالتصنيف على حساب التطوير الحقيقي لعملية التعليم. ومن الملاحظ أنه كلما أتى الكلام على مستوى التعليم والمطالبة بتطويره، قفز البعض للتصنيفات إحصائية خارجية، وبخطط هي أشبه بأحلام اليقظة لمقارعة الجامعات العالمية في التصنيف، ثم يتبع ذلك بعبارات لا معنى حقيقي لها مثل: التميز، الإبداع، الابتكار، ومجتمع المعرفة. وفي الحقيقة فأنا لا أعرف حتى الآن كيف يمكن أن نتحول لمجتمع يصدر المعرفة قبل الحصول عليها؟ هل نحن سنقفز لمنافسة اليابان وأمريكا، وألمانيا في تصدير المعرفة؟ أم أنها تحول أهدافنا لأحلام غير واقعية وغير قابلة للتحقيق من أجل الاستعداد للتنصل من تحقيقها؟ فنحن لو تعهدنا للمجتمع بتحسين مستوى الخريجين للعمل كمهندسين وأطباء ومعلمين مؤهلين لاستطعنا فعلا تطوير جامعاتنا بشكل واقعى محسوس يمكن أن نحاسب عليه، ولأصبح لتعليمنا الجامعى مردود استثماري مباشر وملموس.