لم تكد تصريحات رئيس الهيئة المتكررة تجف بمنع المطاردات من قبل موظفي هذا الجهاز الحكومي إلا ويجد الشارع السعودي نفسه مصدوماً بحادث مؤسف في عز انشغاله باحتفالات اليوم الوطني الأسبوع الفائت. حقيقة أصبحنا أقرب لمشاهد حية لمسلسل مؤسف جداً، ودموياً أيضاً، إنه مسلسل مطاردات أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوده الحماسة المبالغ فيه وحب التسلط وفرض القوة. فالمشاهد سينمائية مفجعة، لكنها واقع. هذا المسلسل الذي لا يتوقف حتى يعود للظهور بشكل مؤلم وحزين. المطاردة الأخيرة عبر سياراتها المدعمة لمركبة شقيقين وسط الرياض أدت إلى انقلاب مركبتهما ووفاة أحدهما، فيما الآخر منوم في العناية المركزة بمستشفى دلة في حال حرجة حتى لحظة كتابة هذا المقال. شاهد عيان حضر الحادثة وبالتحديد بعد انقلاب المركبة، قال: تفاجأت بسيارة تطاردها دورية تابعة للهيئة لتصطدم بها من الخلف وتنحرف لسيارة أجرة كانت واقفة أمامها وتتجه إلى الحاجز الجانبي للطريق، ما أدى إلى سقوطها من فوق الجسر وانقلابها..! (وبعد انقلاب السيارة تبين أن الجزء الأيسر من رأس السائق مهشم ولا يتحرك جسده نهائياً، والراكب الآخر كان مغشياً عليه في المرتبة الخلفية للسيارة). وفيما تطالب العائلة بالقصاص من المتسببين في مقتل المواطن وإصابة الآخر -وهو يعمل في قطاع الدوريات الأمنية التابع للأمن العام في وزارة الداخلية- أكدت العائلة أنها لم تتلق حتى اتصال لتقديم العزاء والمواساة من أحد في هذا الجهاز..! هذا التراخي محير، وتقديم العزاء واجب إنساني بغض النظر عن الإدانة، لكن الهيئة -وهو ما نأمل تأكيده- لم تعد الخصم والحكم، فقد تم إيقاف خمسة من المتسببين في الحادثة من منسوبيها، وتقول الصحف إن جهات رفيعة المستوى من إمارة منطقة الرياض والشرطة والمرور وهيئة التحقيق والادعاء العام بدأت أعمالها بمتابعة من سمو أمير منطقة الرياض وسمو نائبه، وستعلن نتائجها في الوقت القريب العاجل. والمؤمل أن لا يذهب هذا التجاوز الخطر في دهاليز هذا الجهاز والمتعاطفين معه، من أجل أن يؤسس لمرحلة جديدة لأفراد هذا الجهاز الحكومي، والذي لا يجب أن تنزع عنه أي هالة، مع أنه ليس جهازاً بصلاحيات خارجية، فموظفوه ومنسوبوه تابعون في النهاية للجهاز الحكومي، مثل الأجهزة الأخرى، وتصرف رواتبهم من خزينة الدولة. لكن هذه الحادثة، يجب أن تكون مركز التحول في النظر والتعامل مع هذا الجهاز ضمن القانون والصلاحيات، بعيداً عن الشكليات، والتدخلات وتفسيرات الاحتساب الاجتهادية المختلفة المشوشة. هذه القضية بكل تداعياته يجب أن تشكل تحولاً جديداً لحقوق المواطن أمام الأجهزة الحكومية الأمنية وغيرها، وإن كانت الشرطة أو المرور يوجه لهما نقد دائماً، بل حتى إثارة الحديث عن جهاز المباحث، إلا أن هذه الأجهزة على حيويتها تتلقى الاتهامات والتشكيك وتتعامل معه بموضوعية، وتنفتح على نفسها والمواطنين بشكل أكثر، انظر مثلاً لمبادرة نافذة والتي تقدم إحصاء مستمراً ومحدثاً بأعداد المسجونين في سجون المباحث العامة. لقد حان الوقت لظبط هذا الجهاز وتوصيفه بما يستحق، وإعادة تشكيله وتأهيله وفي حدود صلاحيات محددة ودقيقة. وهو ما يجب أن يحدث لنزع أفضلية جهاز يمارس ما هو أبعد من مجرد صلاحيات، تطفل وتدخلات وترهيب، ويتسبب بقتل باسم الاحتساب-للأسف.