ليس قدرا أن تكون المقارنة دائما بين مصر وباكستان وتركيا من حيث علاقة الجيش بالمجتمع ودور الجنرالات في السياسة وعلاقة الجنرال بالدين والدولة، ولكن المقارنة مغرية وربما تكون كاشفة مع إدراكي الكامل للملاحظات التي كنت أنا شخصيا أطرحها ضد كتابات أساتذة متميزين مثل جون وتبري عندما كتب عن مصر ناصر والسادات، أو مثل روبرت سبرنج بورج الذي يصر على الطرح ذاته في مقاله الأخير في مجلة «فورن افيرز»، عندما قارن الجنرال عبد الفتاح السيسي بجنرال باكستان محمد ضياء الحق. والملاحظة التي كنت أثيرها دائما هي أن النظم السياسية أكبر من الأفراد، ولكن الأستاذ والصديق سبرنج بورج في كل كتابته عن مصر بدءا من كتابه عن سيد مرعي إلى كتابه عن مبارك، كان مصرا على التركيز على الشخص لا على النظام السياسي وكأن مصر مفرغة من القوى الاجتماعية المختلفة. هناك وجاهة وإغراء في مثل هذا التناول فهو شيق من حيث القراءة ويسهل مهمة الباحث كما أن الشخصية الكاريزمية الطاغية مغرية بالدراسة. وظاهرة الجنرال عبد الفتاح السيسي تستحق التمعن لما لشخصيته من حضور قوي أقنعت المصريين بالخروج الأكبر في التاريخ إلى الشوارع لمنحه تفويضا لمواجهة الإرهاب. الجنرال السيسي ليس أتاتورك وليس ضياء الحق، ولكن الرجلين يمثلان محددات الصندوق السياسي الذي يتحرك فيه الجنرال السيسي بالطريقة نفسها التي يمثل بها النموذجان الباكستاني والتركي الصندوق الذي يحدد طبيعة النظام السياسي المصري القادم. فالنظام المصري غير قادر على أن يصل إلى علمانية أتاتورك بوضوحها الذي لا لبس فيه، وربما يكون أبعد من تلك الصورة المتشددة لخلط الدين بالسياسة في النموذج الباكستاني رغم ظهور قوى اجتماعية في مصر تستقي من المودودي طرحه الديني ومن جماعاتي إسلامي كثيرا من صفاتها وتدفع مصر في هذا الاتجاه دفعا. السيسي حسب ما كتب عنه رئيس تحرير «المصري اليوم» ياسر رزق بناء على معرفة عن قرب ولقاءات متعددة، لم يكن تلك الشخصية المتزمتة دينيا كما حاولت أن تروج عنه جماعة الإخوان بعد أن تسلم قيادة الجيش من المشير طنطاوي. فهو رجل مسلم يتسم بالتقوى على الطريقة المصرية، ولكنه ضابط منضبط في المقام الأول وولاؤه لوطنه ومؤسسته العسكرية. ولكن ربما هناك شبه هنا بين علاقة السيسي بالرئيس السابق محمد مرسي الذي عينه في منصبه ورقاه لرتبة فريق أول، وعلاقة ذو الفقار علي بوتو والجنرال ضياء الحق الذي رقي أيضا قبل أن يقوم بعزل علي بوتو، كما عزل السيسي مرسي. ولكن الأول كان بانقلاب عسكري كلاسيكي والثاني استجابة لمطلب ملايين المصريين الذين ملأوا الشوارع والميادين. باكستان أيضا في السبعينات كانت أساسية في المواجهة الأميركية السوفياتية، مما فرض دورا أميركيا مخالفا ومختلفا عنه في مصر. والأميركيون مغرمون بدعم الجنرالات في العالم الثالث، حتى جمال عبد الناصر نفسه كان محل دعم أميركي. حيث وقف الأميركيون معه ضد العدوان الثلاثي في عام 1956 ضد فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، ولكن ناصر غير وجهته بعد ذلك وخسر الأميركيين. ولم يكن ناصر وحده الذي تغير بل الضغط الإسرائيلي على واشنطن ساعد في تشويه العلاقة بين أميركا وعبد الناصر. السيسي قريب من حالة عبد الناصر أو ربما خليط بين عبد الناصر والسادات ويحظى بدعم أميركي لا ندري إلى متى سيدوم، مع أن المؤشرات تقول: إن أميركا تفضل رجلا قويا في مصر يحفظ الاستقرار على غرار السيسي لا الفوضى التي أنتجها نظام مرسي والإخوان. ضياء الحق كان الجنرال ذاته في باكستان، وأيضا على عكس ما يقال عن تدين ضياء الحق الذي يركز عليه سبرنج بورج في مقاله، إلا أن ضياء الحق عندما كان يعمل في الأردن كمستشار عسكري قبل عودته إلى باكستان، يقول عنه من عرفوه هناك أنه كان رجلا معتدلا في تدينه ولم يكن متشددا. الجنرال أتاتورك ظهر في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت الذي كانت تنهار فيه الإمبراطورية العثمانية، وكان رجلا ثوريا من الناحية الاجتماعية حيث غير حروف لغة الكتابة وأمر بمنع حجاب المرأة بمعنى النقاب. ولكنه لم يكن ديمقراطيا كما تصوره الميثولوجيا التركية، فقد كان رجلا عسكريا علمانيا لكن كانت به كل ملامح التسلط. ومع ذلك خلف من بعده نظاما أخذ تركيا إلى الأمام وخلق نموذجا، استمر حتى مجيء رجب طيب أردوغان والتيار الإسلامي، يكون فيه الجيش حاميا للديمقراطية. الحديث اليوم في واشنطن وبعض العواصم المهمة يركز على السيسي على أنه أتاتورك ليس من زاوية العلمانية، ولكن من زاوية دور الجيش كحام للدستور ووجود رجل قوي على رأس المؤسسة المكلفة حماية الدولة وحماية الدستور، وتكون حكما بين القوى الاجتماعية والسياسية في البلد. غذى هذا التصور في الغرب، التصريح الذي قاله المتحدث العسكري المصري الذي أكد على أن السيسي يفضل موقعه الحالي كقائد للجيش وهو منصب ما بعده منصب. كثيرون في الغرب يفضلون السيسي في موقعه، ولكن المصريين، أو على الأقل شرائح واسعة منهم، تفضل السيسي رئيسا خصوصا بعد ترك المتحدث العسكري الباب مواربا حين قال بأن للسيسي الحق في الترشح للرئاسة مثله مثل أي مواطن مصري عند خروجه من القوات المسلحة. في حوار الأول من نوعه لل«واشنطن بوست» لم ينف الجنرال السيسي تماما أنه لن يترشح للمنصب ولكن اللافت للنظر في مقابلته هو أنه ليس الجنرال ضياء الحق إذ جاء نقده لجماعة الإخوان المسلمين من منطلق أنهم جماعة لا تؤمن بالدولة الوطنية، جماعة عابرة للحدود تريد إقامة نظام خلافة لا علاقة له بالدولة المصرية. كل كلام السيسي وتحذيراته تبعدنا كثيرا عن نموذج ضياء الحق فهو رجل لا يخلط الدين بالسياسة كما ادعى صديقي الذكي روبرت سبرنج بورج. السيسي يتحدث بألم عن أميركا التي أدارت ظهرها للشعب المصري وللجيش المصري الوطني المعتز بوطنيته. السيسي هنا ليس ضياء الحق. كما أنه ليس أتاتورك. هو نموذج مصري خالص، نموذج ثالث وهو أيضا ليس البكباشي جمال عبد الناصر. السيسي خليط بين عبد الناصر والسادات ويجب ألا يتخوف الغرب من هذا الجنرال. السيسي نتيجة طبيعية للثقافة السياسية المصرية التي تختلف كثيرا عن نظيرتيها في باكستان وتركيا. مهم ألا نتعجل في الحكم على الرجل ونضعه في قوالب جاهزة مثل ضياء الحق أو أتاتورك. مهم أيضا وربما أكثر أهمية ألا نجعل من مصر مجرد نمط يشبه الجزائر 1989 أو تركيا بعد الحرب العالمية الأولى أو باكستان السبعينات. امنحوا مصر الفرصة كي تلتقط أنفاسها وامنحوا هذا القائد فرصة. لا نريد نموذج تركيا ولا نموذج باكستان ولله الحمد أن السيسي ليس ضياء الحق أو أتاتورك. نريده مصريا وهو حسب كل المؤشرات يبدو كذلك. فقط لا تخنقوا الرجل وامنحوه ومصر مساحة كي يتنفسا. *نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية