يقول شاعرنا الكبير جبران خليل جبران: "وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ... وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ".. أردت أن أبدأ بها، لأن موضوعي اليوم يحاول أن يقترب بكل حزن وأسى من قضية العنف بحق كبار السن.. قد يستغرب البعض ويرفض الأمر برمته، لأن أخلاقياتنا الإسلامية والإنسانية لا يمكن أن تتخيل أن يقوم أحد بالاعتداء على الضعفاء، خاصة كبار السن. وهنا طبعا أشير إلى حياتنا اليومية وليس خلال الحروب والأزمات، ولكن الأمر للأسف ظاهرة، ليست محلية فقط، بل عالمية، والحديث عنها يجب أن يأخذ حيزا من التوعية الاجتماعية، ليس لأنها تعد جزءا من ظاهرة العنف بكافة أشكاله، ولكن لأنها بنظري على الأقل، تعد الأخطر، خاصة بعد أن أظهرت الدراسات تزايد معدل العنف ضد الكبار في الفترة الأخيرة. لو تابعنا الصحف اليومية لكثير من الدول حول العالم لوجدنا ما يشير إلى تعرض كبار السن لسوء المعاملة.. بالطبع تختلف نوعية العنف ما بين لفظي، ومعنوي، وجسدي ومادي.. والسؤال هنا: لماذا لا تظهر جميع حالات العنف، أقصد لا نعرف إلاّ عن القضايا التي يبلغ عنها الآخرون وليس المعنف نفسه؟ لأنهم يعيشون في خوف من خسارة من يقوم برعايتهم، حسب اعتقادهم، ولهذا أطلق عليهم "الضحايا الصامتة"، خاصة الإناث منهم، لأنهن حسب الإحصاءات يعشن أطول، يترملن ويعشن بمفردهن بنسبة أكبر من الرجال، المهم هنا أن ندرك أن كبار السن يتعرضون للاعتداءات المتكررة أكثر بكثير مما تظهره الصحف أو الإحصاءات في الدراسات الاجتماعية أو الإحصاءات الرسمية للدولة، لأن الكثير منهم ببساطة لا يبلغ، والأكثر مستسلم ولا يشتكي! واليوم وبسبب تعقيدات الحياة وانشغال الكثير في المتاهات والعراك اليومي بحثا عن العيش الكريم، أو للأسف تقديس المظاهر والمسؤوليات الاجتماعية ذات الطابع الطبقي والتقليد، ولطغيان المادة على الأخلاقيات، والبعد عن التقاليد الاجتماعية التي تتمحور حول تقديس الأسرة وتقدير كبار السن؛ أصبح المسنون يعانون بصمت، لإنهم ببساطة عاجزون عن مواجهة الإعداءات التي تلحق بهم! لقد أدوا ما عليهم في الحياة وكانوا ينتظرون رد الجميل، وبالمقابل لا نمدهم بشيء سوى نكران الجميل! يتعرضون للإهمال، وقد يصاحب ذلك سوء المعاملة أو العنف، وممن؟! من أفراد من أسرهم! فنجد مثلا بعض الأبناء الذين تجردوا من إنسانيتهم يمارسون أنواعاً عدة من العنف ضد ذويهم، مما يحط من كرامتهم، ويعرضهم لمشاكل صحية ونفسية، فهل يردون بالشكوى إلا إلى الله.. إن ردة فعلهم عادة ما تكون سلبية فلا يتحدثون خوفا أو خجلا، وليس بيدهم أن يوقفوا ما يتعرضون له.. مجرد استسلام كامل للواقع! وهذا ما يشجع المعتدين على الاستمرار في سلوكياتهم الشاذة ضدهم، فلا رقيب ولا محاسب سوى الله، ومن أين لهم أن يخافوا الله وقد انعدم لديهم الوازع الديني؟! أرواح كريمة كانت يوما في عز واقتدار تجد نفسها بين براثين الحاجة، وأمرها بيد من لا يخاف الله ولا يخشاه.. كم هو قاس قتل الروح والنفس ما زالت حية! إن الجروح والكسور وغيرها من نتائج العنف الأسري قد تعالج عند الأطفال والنساء، ولكن عند الكبار فالأمر صعب، نظرا لهشاشة وضعهم الصحي وبنيتهم الضعيفة، والعلاج النفسي قد يسهم في شفاء الكثير من المعنفين، إن وجد، ولكن بالنسبة للكبار يكاد يكون مستحيلا، فلا الوقت في صالحهم، ولا وضعهم النفسي مهيأ للتقبل. أريد أن أنهي بدراسة أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية في المملكة عام 2006، نشرت حينها في صحيفة "الاقتصادية" تحت عنوان "العنف ضد كبار السن"، ليس للعرض، بل للتأكيد أن ما يحدث هو حقيقي وفي مجتمعنا.. واليوم! فلقد أشارت الدراسة إلى زيادة معدلات العنف ضد كبار السن في المجتمع السعودي، وأن أكثر أنواع الإيذاء يتمثل في الإهمال، يلي ذلك الإيذاء النفسي. وقد كشفت هذه الدراسة أن أغلب مشكلات المسنين الاجتماعية تتمثل في: الحرمان الاجتماعي، تقلص العلاقات، فقدان الأمن الاقتصادي، فقد الدور، التقاعد، الترمل، الطلاق، ومشكلات شغل وقت الفراغ.. هذا إضافة إلى مشكلات الرعاية الشخصية المتمثلة في نظافة البدن والملبس والمأكل. هذه النتائج كانت قبل سبعة أعوام تقريبا، فماذا عن اليوم؟ هل اختفت؟ بالطبع لا، بدليل أن الإحصاءات في الدراسة التي نقوم بها كفريق عمل يدرس ظاهرة العنف الأسري في المملكة تشير إلى استمرار هذه الظاهرة المخجلة في مجتمعنا، ولله الحمد ليست بالنسب المرعبة التي وجدناها حول العالم، ولكن أي عدد هو عدد يجرمنا أمام الله وأمام أنفسنا كمجتمع! ما المطلوب؟ إعادة إحياء التكاتف الاجتماعي، إعادة إحياء تراثنا القيّم من العلاقات الأسرية، إعادة إحياء التلاحم والتواصل البشري المباشر بين أفراد الأسرة الواحدة والممتدة، إعادة إحياء القيم الإنسانية بداخلنا... وقبل وبعد وخلال كل ذلك إحياء محبة الله في قلوبنا، لنحب أنفسنا فلا نرميها في طريق الظلم والإفتراء.. ومنها سنحب خلقه ونراعي الأمانة، فلقد قال سبحانه: "وقَضى ربّك أَلا تعبدوا إلا إِياه وبِالْوالدينِ إِحسانا إِما يبلغن عندك الْكبرَ أَحدُهما أَو كلاهُما فلا تقل لَهما أفّ ولا تنهرهما وقل لَهما قَولا كريما" [الإسراء، 23].