بات العنف ضد الأطفال ظاهرة خطيرة تجتاح كل المجتمعات، ومن ضمنها المجتمع السعودي، وهي ظاهرة تخالف الفطرة الإنسانية، خاصة إذا كان العنف صادراً من الأب أو الأم تجاه أطفالهما واللذين من المفترض أن يكونا مصدر الحنان، وتكمن خطورتها في الآثار النفسية والبدنية على الأطفال والتي تظهر في سلوكياتهم وأخلاقياتهم، فيتحولون إلى مُعنَّفين ومرضى نفسيين، خاصة إن تعرضوا إلى اغتصاب جنسي من أحد أقاربهم أو محارمهم والعيادات النفسية ملأى بمرضى هم ضحايا العنف الأسري. عن مدى انتشار هذه الظاهرة في المجتمع السعودي، توضح عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد أن الحالات التي سُجلت في المجلات الطبية تقدر ب 39حالة، تشتمل على جميع أنواع الاعتداء على الأطفال، مشيرة إلى الدراسة التي أجراها جهاز مكافحة الجريمة في وزارة الداخلية والتي بينت تفشي ظاهرة إيذاء الأطفال في المجتمع السعودي بشكل عام، حيث اتضح أن 45% من الأطفال يتعرضون لصورة من صور الإيذاء في حياتهم اليومية، إضافة إلى إحصائيات برنامج الأمان الأسري التي أوضحت أن حالات العنف الأسري ضد الأطفال المسجلة بلغت (85) حالة، منها (12) انتهت بوفاة الأطفال. وفيما يخص الأسباب التي تؤدي إلى شيوع ظاهرة الإيذاء الذي يتعرض له الصغار يرى الدكتور عبد الحميد الحبيب المدير التنفيذي لمجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض ان أهمها يعود للمعتدي نفسه مثل الجهل بطرق التربية، وجود تاريخ لمرض نفسي، اضطراب الشخصية، تعاطي المخدرات، إضافة إلى الظروف الاجتماعية مثل الفقر الشديد والخلافات الزوجية، وقد تكون الأسباب عائدة للطفل مثل رفض الطفل لذاته أو لجنسه، الحالة الصحية خاصة مع وجود إعاقات جسدية، مستوى الذكاء والتحصيل الدراسي، وسمات شخصية الطفل. بحث الأسباب ومنع حصولها أساس العلاج ويشير إلى أن الأسر التي يحصل الإيذاء في محيطها - بحسب ما يراه في العيادات - هي في الغالب اسر فقيرة غير متعلمة أو تضم عدداً كبيراً من الأطفال مع وجود تاريخ لتعاطي المخدرات لأحد الوالدين أو كليهما، موضحاً انه عندما يكون المعتدي على الطفل هو الأم يكون التأثير على الأطفال كبيراً جداً، حيث ان الأم - أو من يقوم بدورها- تمثل مركز الأمان لدى الطفل، ووجودها ودعمها للطفل في سنوات عمره الأولى أمر أساسي لتطور الأمن النفسي والاجتماعي لدى الطفل، فعندما يأتي الإيذاء من مصدر الأمان يفقد الطفل ثقته بنفسه وبالمحيطين به، وقد يؤدي أما إلى الانزواء وعدم الفاعلية أو الجنوح والإجرام. وعن كيفية تفادي هذا الأمر يلفت الحبيب إلى أن ذلك يحتاج إلى دراسة الأسباب والعمل على منع حصولها، وذلك لن يتم إلا بوجود مجتمع مستقر واسر مستقرة نفسياً واجتماعياً، وللوصول إلى هذا المجتمع نحتاج إلى تعاون جميع الجهات التوعوية والإعلامية والتعليمية والطبية والقانونية لتأمين الاحتياجات الأساسية للأسر، لتتمكن من رعاية أطفالها وإعطائهم الأمن الكافي، وبهذه الطريقة فقط يمكن أن نحارب العنف بجميع أنواعه. دور التوعية في معالجة هذه الظاهرة ويوجه الحبيب النظر إلى انه في بعض الأحيان يكون الإهمال والإيذاء المعنوي والإيذاء الجسدي (غير المقصود) هدفه التربية وتقويم سلوك الطفل، قائلاً: "الحالات الأكثر شيوعاً لدينا يكون الإيذاء فيها غير مقصود، إذ يظن ولي الأمر انه بذلك يؤدب طفله، ويكون التعامل معها بدراسة الأسباب ومحاولة علاجها مع جلسات خاصة بالوالدين والأسرة للتوعية والتدريب على طرق التهذيب والعقاب لتعديل السلوك بصورة صحية تحقق هدف التربية مع سلامة الطفل البدنية والنفسية، وهو في الغالب أمر كاف، لكن في حالة استمرار الإيذاء فنتعامل مع الحالة كحالة إيذاء مقصود". أما بالنسبة للأنواع الأخرى من الاعتداءات مثل حالات الاعتداء الجسدي الشديد والاعتداءات الجنسية قال الدكتور الحبيب انها الأقل في العيادة لديهم "كونها تباشر عادةً في المستشفيات العامة متعددة التخصص وتحول إلينا بعض هذه الحالات لعلاج أعراض ما بعد الصدمة، ويتم تحديد خطة علاجية خاصة لكل حالة على حدة بحسب ظروفها، أما في حالة حضورها إلينا مباشرة فيتم تبليغ لجنة الحماية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى لتأمين مكان آمن للطفل، وقد نحتاج إلى التدخل الأمني في بعض الحالات". ويذكر الحبيب أن إجراءات إعادة تأهيل الأطفال تبدأ بإيجاد مكان آمن للأطفال، ثم البدء بجلسات تدعيم وبناء علاقة مع الطفل تتدرج في الوصول إلى جلسات العلاج المعرفي وجلسات تأكيد الذات وفي الوقت نفسه يتم التعامل مع الأسرة ودراسة إمكانية عودة الطفل لأسرته من جديد، موضحاً ان الدور الأكبر الذي يقومون به هو دور التوعية والتثقيف لحماية الأطفال من حالات العنف المعنوي، الإهمال والضرب والتي تكون أما من خلال العيادة بجلسات العلاج الأسري والعلاج الزوجي أو ميدانياً من خلال المدارس أو المحاضرات العامة. قصص عن بعض حالات العنف ومن جانبها تقول الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد رئيسة مركز المعلومات والإحصاء والتوثيق بالجمعية الوطنية لحقوق الإنسان أن هناك قصصاً عن بعض حالات العنف ضد الأطفال قد روعت القلوب واهتزت المشاعر لها، ومن ذلك اشتراك أب مع زوجته في تعذيب طفلته "غصون" حتى الموت نكاية في أمها! موضحة أن غصون رحمها الله ليست الضحية الوحيدة، فهناك المئات من أمثال غصون لقين حتفهن نتيجة تعذيب أو اعتداء جنسي من أب أو زوج أم أو أخ أو عم أو خال، ففي احد المستشفيات كانت أم تحمل طفلتها ابنة السنتين وهي بين الحياة والموت وقد تعرَّضت لاعتداء جنسي من أبيها، ولم يستطع الأطباء إنقاذ حياتها، فالموت كان قد سبقهم، والطفلة رزان قضت نحبها نتيجة عنف أسري مورس ضدها. وتضيف الدكتور سهيلة الى ما سبق من القصص: "المواطن السعودي (ع، ك) قتل ابنته (غدير) البالغة من العمر (3) سنوات وأدخل ابنته الأخرى نوال البالغة من العمر (6) سنوات المستشفى بعد أن تعرضت للضرب المبرح والكي بالنار، وقالت الطفلة إن والدها ضرب أختها الصغرى (غدير) ثم قام برميها على الجدار، ما أدى إلى وفاتها قبل يومين، وكانت الطفلة "نوال" في حالة صحية ونفسية سيئة، حيث ظهرت آثار التعذيب والضرب الوحشي على معظم أجزاء جسدها". وتوضح الدكتورة سهيلة أن هذا الأب (ع. ك) كان يعمل في أحد القطاعات العسكرية ثم فصل قبل أكثر من سنتين، وتزوج من أخرى بعد أن طلق زوجته أم الطفلتين (غدير، ونوال) وتعيش مع أهلها في منزل آخر بينما الطفلتان الضحيتان كانتا تقيمان مع والدهما وزوجته الجديدة. وقصة أخرى تسردها الدكتورة سهيلة عن الطفلة بلقيس ابنة السبع سنوات التي عذبتها زوجة أبيها، وكانت تؤكلها العظام، وتعريها من ملابسها، وتخرجها من البيت لترمي الزبالة في صندوق الزبالة، ولم يكفها تعذيب الطفلة وترويعها وتجويعها، فقد ضربتها بقطعة خشبية على رأسها أفقدتها الوعي، ودخلت الطفلة في غيبوية طويلة، وقال الأطباء انَّ المخ مات، وفقدت الطفلة جزءاً كبيراً من وزنها، وتم نقل الطفلة بعد غيبوبة دامت سنة كاملة إلى مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية، بأمر من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، حيث استجابت الطفلة بلقيس للعلاج، واستعادت وزنها. أمام هذه القصص تلفت الدكتورة سهيلة إلى أن من أبرز المعوقات التي تواجه الجمعية في حماية مثل هؤلاء انتقال حضانة الطفل بحكم قضائي إلى أبيه، ويُنتُزع من حضن أمه ليكون في حضانة أب متزوج من زوجة انعدمت في قلبها الرحمة وتعامل الطفل بقسوة، وتُحرِّض الأب على تعذيب طفله، وقد ينتهي تعذيبهما إلى قتله كما حصل لغصون وغدير وأريج، أو الدخول في غيبوبة كما في حالة "بلقيس"، وللأسف الشديد هناك قضاة لا يلتفتون إلى صرخات الأطفال وأمهاتهم. حقوق الطفل وحمايته وعن دور الجمعية في الحفاظ على حقوق الطفل وحمايته من الأذى، تلخصه الدكتورة سهيلة في العمل على تجريم العنف الأسري ومعاقبة مرتكبيه كما حدث في قصتي غصون وبلقيس، إذ أسهمت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في إصدار الأحكام القضائية على مرتكبي العنف ضد الأطفال مثل والدي غصون وبلقيس، وزوجتي والديهما. ايضاً العمل على حماية الطفل ودفع الأذى عنه، وذلك من خلال ما تتبناه من قضايا الحضانة والنفقة ونزع الولاية والحرمان من الميراث، مثل ما حدث في قصة اليتيمتين "نورة، وسارة" اللتين استولى أخوهما غير الشقيق على ميراثهما وهو الوصي عليهما وعلى أموالهما، حيث اتهمت والدة اليتيمتين هذا الأخ بالتلاعب في وصية الأب المتوفى وحرمان القاصرتين من الميراث، الذي أدى بها للعيش هي وابنتيها على نفقة المحسنين، ورجال البر والإحسان، وقد أصدرت المحكمة العامة في جدة قراراً بحجز أملاك الأخ غير الشقيق للطفلتيءن القاصرتيءن ( نورة وسارة)، واستجاب القاضي لطلب ممثل الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بإلزام المدعى عليه بتقديم كشف حساب تفصيلي عن أعيان وتركة ميراث اليتمتيءن. إضافة إلى ذلك تعمل الجمعية على تحويل حالات العنف ضد الأطفال وأمهاتهم إلى دور الإيواء، ريثما تحل قضاياهم. واخيراً اوصت الجمعية في تقريرها الأول عن أحوال حقوق الإنسان بوضع مدونة وطنية لحقوق الطفل تكون مرشداً للأجهزة الحكومية، وكذلك الأهلية في معالجتها لجميع ما له علاقة بالطفل. الطفل لم ينل حقه من الاهتمام أكد الدكتور عبدالعزيز عبدالله الدخيل أستاذ الخدمة الاجتماعية المساعد في جامعة الملك سعود ان العنف والإهمال الموجه ضد الأطفال يعدان أحد أهم المشكلات التي يجب على مجتمعنا مواجهتها بمهنية وحزم وتنظيم، وذلك لما لهذه المشكلة من تأثيرات خطيرة مباشرة على الأطفال ضحايا العنف والإهمال فيما ينتج عن هذا الإيذاء من مسخ لشخصية الطفل وإذلاله وحرمانه من إنسانيته، وهذا غالبا ما يؤدي إلى اضطرابات نفسية متعددة لا يعلم تأثيراتها على الطفل والأسرة والمجتمع إلا الله سبحانه وتعالى، قائلاً: "علينا ألا نتوقع الكثير من طفل كان ضحية للإيذاء (إلا من رحم ربي)، فالآثار النفسية التي يخلفها الإيذاء على ضحية العنف والإهمال تنعكس سلبيا على مساهمته كعضو فعال في المجتمع، بل انه قد يكون ذا شخصية معادية للمجتمع". ويرى الدخيل أن العنف أو الإيذاء ضد الأطفال موجود في كل زمان ومكان، وان اختلفت أشكاله وأنواعه، أما عن معدلات ازدياد المشكلة أو انخفاضها، فنحن لن نستطيع رصد ذلك ما لم تكن لدينا دراسات وطنية ابيدومولوجية دورية، نعرف من خلالها معدلات الانتشار والزيادة والانخفاض، مشيراً إلى ان "مشكلة الإيذاء ومنها مشكلة إيذاء الأطفال ليست بالمشكلة الجديدة - كما ذُكر آنفاً- ولكن كمجتمع وكأناس عاديين بدأنا نستشعر وجودها نتيجة تسليط الضوء عليها في السنوات القليلة الماضية، وإلا لما شعرنا بوجودها أصلاً". وعن دور الإعلام في مواجهة هذه الظاهرة، يقول: "لابد من القول بأن الإعلام وقبل ذلك المهنيين من أخصائيين اجتماعيين ونفسيين وأطباء هم من دق جرس المشكلة ونبه إلى أهمية التدخل وحماية ضحايا الإيذاء ومساعدتهم وتأهيلهم نفسا واجتماعيا، وتمثل ذلك في إقامة وتنظيم الندوات والدورات التدريبية للمتخصصين في كيفية كشف حالات الإيذاء والتعامل معها، كما تمثل في التحقيقات الإعلامية والمناقشات والمقابلات التلفزيونية مع المختصين وذوي الضحايا". ويوضح "اننا كمختصين ومهما أوتينا من مهنية لا ولن نستطيع حماية ومساعدة ضحايا العنف من الأطفال ما لم تصدر أنظمة تنظم الإجراءات والآليات وكل ما يرتبط بالإيذاء. فعلى سبيل المثال، هل تستطيع - في الوقت الحاضر- إدارة الحماية بوزارة الشؤون الاجتماعية، أو لجنة الأمان الأسري أو حقوق الإنسان حماية الطفل المتعرض للإيذاء وحمايته من والده المعتدي، مثلا عن طريق أخذ الطفل بعيداً عن الأب ومعاقبة الأب ومن شاركه في إيذاء الطفل؟". التشريعات المنظمة ويتوقع الدخيل أن تصدر التشريعات المنظمة للآليات والإجراءات المرتبطة بالإيذاء قريباً، وينبه إلى نقطة هامة بهذا الخصوص وهي أن تأخذ هذه التشريعات في حسبانها وقبل صدورها البعد الثقافي للمجتمع، سواء من حيث التنظيمات أو الإجراءات أو الآليات أو ما يمكن اعتباره إيذاء جسديا أو نفسيا أو جنسيا، قائلاً: "كما أن هناك أمراً آخر أود التنبيه إليه، ففي الوقت الذي يأخذ فيه موضوع الإيذاء اهتماما مهنيا وإعلاميا، نجد أن اهمال الأطفال لم ينل حقه من الاهتمام على الرغم من أن اهمال الأطفال هو أشد وطأة من الإيذاء وأكثر خطراً على الفرد والأسرة والمجتمع. وإهمال الأطفال متنوع ويمكن أن يكون جسميا أو نفسيا أو تربويا أو أمنياً أو غذائيا. والمتتبع للأدبيات الغربية بهذا الخصوص، يعرف تمام المعرفة أن الإيذاء والإهمال هما موضوعان متلازمان حتى أنهما أصبحا مصطلحاً واحداً في أحيان كثيرة، حيث نجد أن معظم الموضوعات التي تتحدث في هذا المجال تشير إلى إيذاء الأطفال وإهمالهم Child abuse and neglect. ويشير أستاذ الخدمة الاجتماعية المساعد في جامعة الملك سعود إلى اهمية الدعوة إلى التركيز على موضوع اهمال الأطفال، كونه يحدث بصور وأساليب متعددة، كما أنه أوسع انتشارا، وقد يكون سببا رئيسا في بعض حالات الإيذاء. ويعني إهمال الأطفال فشل من يقوم برعاية الطفل في تقديم الموارد اللازمة للصحة الجسمية والعاطفية وللنمو الاجتماعي للطفل، ويتضمن الإهمال أمثلة منها سوء الحضانة وضعف الرقابة أو الإشراف، والعجز في الرعاية الصحية، وعدم القيام بالأعباء التربوية اللازمة للطفل، "فمثلا نسمع أن التعليم الابتدائي يعتبر اجباريا، وفي نفس الوقت يوجد أسر تهمل أو تمنع أبناءها من التعليم الابتدائي، فما هو الإجراء المتخذ في مثل هذه الحالة؟ هل حدث أن عوقب أب بسبب منعه لأبنائه أو بناته من التعليم الابتدائي؟". ويختم الدخيل قائلاً "اهمال الأطفال موضوع متشعب وكبير إلا أن إهمال الأطفال موضوع يجب أن ينال حظه من الاهتمام من قبل المتخصصين، ويكفي أن نعرف أن ديننا قد أمرنا برعاية أطفالنا والاهتمام بهم، حتى أن الأم يجب أن تصوم شهرين في حالة موت رضيعها فيما لو ثبت أن الوفاة كانت نتيجة لاهمالها له".