يجعلنا هذا الاسم الضخم في حياته وعلى فراش مرضه، نعيد قراءة رسالته مرة أخرى، عند حواراتنا، اختلافاتنا وتفاصيلنا التي نقود فيها دائماً أخطاءنا ونعيد تكرارها بتذكية ثأر وتصفية حسابات وشخصنة التاريخ يصنعه ويكتبه أشخاص، ينبتون كبذور لا تعرف سوى البناء، يصنعون علامات فارقة على جبين البشرية ويصبحون أوشاماً على خارطة العالم، ويقدمون دروساً خالدة حتى عند مرضهم أو بعد موتهم.. ومن أجلهم تصلي البشرية وتبتهل بالدعاء في الحضور والغياب!. أيقونة التحرر الأفريقي "مانديلا" ممّن نحت اسمه في سجلات الخلود الإنساني، وقف ضد العنصرية، وناضل بعشرة آلاف يوم كاملة في زنزانة روبن آيلاند رهيناً لمحبسي السجن والحرية!. مناضلٌ صلدٌ.. تجلى في سجنه كمُلهمٍ لثورةٍ ناصعةِ "البياض" أزاحت ثلاثمائة وأربعين عاماً من "سواد" العبودية، توجها كفاحه بإلغاء أبارثيد "الفصل العنصري" في وطنه، أكمل فصول مسيرته.. فتفاوض مع السلطة القائمة حينها على فترة انتقالية ناعمة نحو ديموقراطيةٍ للسلام، وبعد أن دخل قصر الرئاسة أزاح مبدأ "الانتقام" ومنزلقاته البشعة ممن ساووه ومواطنيه بالحيوانات قانوناً وتعاملاً، فاجأهم بسياسة يدٍ "بيضاءٍ" ناصعة تمتد نحو سمو الإنسانية، لم يسع أبداً إلى تنكيلٍ أو إهانةٍ "للبيض" بل أطلقهم مباشرة مع دعوات إلى مصالحة وطنيّة، معلناً ومرسخاً لمفاهيم العفو والصفح وحقن دماء البشر، فنأى بوطنه ومواطنيه من عنق حروب أهلية إلى مرافئ سلام وتؤدة وجنوب أفريقيّ غدا أنموذجاً للتعايش والسلم ونجاحات المستقبل. وكعادته في السرد الجميل والفصول الشادهة، وفي فصل آخر.. غادر "مانديلا" السلطة بعد نهاية رئاسته، رافضاً "استثناء" البقاء، قاطعاً ومنجزاً الكثير من وعود التغيير التي بدأها وأصبحت أزمة لمن خلفه. لم تنته القصة بل بدأت بفصول أكثر إنسانيّة وجمالاً فجميع خطوات هذا العملاق كانت بعد تقاعده، فتابع مسيرته متعقباً في كل أنحاء العالم لأي نظامٍ عنصريٍّ مستبد ليسقطه عمداً وسهواً، متحركاً مع الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان والشعوب حول العالم، وحتى بلغ عتياًّ من الخامسة والثمانين أعلن تقاعده عن الحياة العامة، لأن صحته أصبحت لا تسمح بالتحرك والانتقال، كما رأى أن عائلته تستحق ما تبقى من عمره. تلقى "أيقونة" الحرية أكثر من مائتين وخمسين جائزة وطنية ودولية خلال أكثر من 40 سنة تتقدمها جائزة نوبل للسلام، وفي ظل انهمار الأوسمة والجوائز والإشادات عليه من كل ركن وزاوية في خريطة العالم قرر وأعلن عدم قبول المزيد، مستمراً في تقديم دروسه معتبراً أنه يجب تكريم الآخرين أيضاً، ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 18 يوليو كان لها موقفها من ذلك وبصمتها التقديرية له فأعلنت "اليوم الدولي لنيلسون مانديلا" من كل عام تقديرا لكفاحه من أجل الديمقراطية وترويجه لثقافة السلام في شتى أرجاء العالم. الأسابيع الماضية، بدأ "مانديلا" مصارعة المرض والموت في مشفاه، انتفض العالم ليوقد شموعاً يتنفس بها، كانت الدموع مليئة والابتهالات متهدجة مرتفعة من أجل شفائه، الأفارقة متأثرين وبحرقة ألم الفراق: "الأمر صعب جداً فمانديلا رمزنا، لا نتصور أن يكون ممدداً على سرير مستشفى، ومعرفة أنه لن يتعافى أمر أصعب لنا.. لا نريد أن نخسره حتى لو كنا نعلم أن ساعة وفاته اقتربت". وعن الأممالمتحدة قال أمينها: "إن العالم كله يدعو لنيلسون مانديلا الذي يصارع الموت أعلم أن تفكيرنا وصلواتنا هي من أجل نيلسون مانديلا وعائلته وذويه والأفارقة الجنوبيين والناس في العالم بأسره الذين استوحوا حياته المميزة والمثالية". الخميس الماضي.. احتفل رائد الحرية المتعددة الأعراق في عصرنا بعيد ميلاده ال95 في مشفاه في بريتوريا، فاحتشد الآلاف من عشاقه ومواطنيه للاحتفال بيومه، وأطلق دعاة السلام مئة حمامة بيضاء عزف معها نشيد وطنه ثم أمنية العالم .."هابي بيرث داي" مانديلا. وحين تكتب هذا الاسم الضخم كما كان في حياته وعلى فراش مرضه ومصارعة موته..أجزم أنه يروي لنا دروساً خالدة مع نحت رؤيةٍ للأجيال القادمة في الحرية والتسامح وشيم الارتفاع عن تراكمات الماضي في زمنٍ متسارعٍ نحو الصراع والانتقام والفجور في الخصومة.. كما أجزم كذلك، أنه يذكرنا (اليوم) كشعوبٍ ومجتمعاتٍ تنتقم من نصفها الآخر كطبائع للاستبداد في تاريخها، وامتداداً إلى حاضر حياتها.. أن نعيد قراءة رسالته مرة أخرى.. عند نقاشاتنا، حواراتنا، اختلافاتنا وتفاصيلنا الدقيقة التي نقود فيها دائماً أخطاءنا ونعيد تكريرها بتذكية ثأر وتصفية حسابات وشخصنة... "Happy birthday".. مانديلا، في مرضك وحياتك وحتى بعد مماتك، وكما أجزله الصديق الجميل "عبدالرحمن السيد" في مقاله: "نم قرير العين أيها "المبجل"!