الدعاء عبادة، بل هو العبادة، ولكل عبادة فقهٌ يجب أن يعرفه من يؤديها، وأولى الناس بفقه الدعاء هم أئمة المساجد؛ لأنهم يدعون لهم ولغيرهم في قنوت الوتر، ولا يملك المأمومون إلا التأمين على دعائهم، فيتأكد في حقهم فقه الدعاء وآدابه أكثر مما يتأكد في حق من يدعو لنفسه. ومن يتأمل حال كثير من الأئمة في القنوت، يجده على حال مؤسف؛ حيث الجهل بفقه الدعاء، والتفريطُ في آدابه، والاعتداءُ فيه، ولكل واحدة من هذه شواهد...فبعضهم يستجرّه إلى هذه المخالفات فرط العاطفة وحب انتهاز المواسم واجتماع الناس للصلاة والدعاء، ولا أظنهم يفعلونها تعنّتاً بعد العلم، ولا قصداً للمخالفة اتباعاً للهوى. وأياً ما كان الدافع فالعمل ليس بسائغ، ويجب تصحيحه والاحتساب عليهً، ومن أمثلة الاعتداء في دعاء القنوت، ما يقع فيه بعضهم في دعائه على المعتدين من تفصيلات تتجاوز الدعاء بإهلاكهم إلى تصوير الإهلاك كيف يكون؟ وبم يكون؟ وكأن إهلاكهم لا يتأتى إلا بالطريقة التي سألوها! فما أكثر أن تسمع من بعض الأئمة هذا الدعاء: «اللهم لا تدع لهم طائرة إلا أسقطتها، ولا سفينةً إلا أغرقتها، ولا دبابة إلا دمرتها، اللهم اقلب البحر عليهم ناراً، والجو شهباً وإعصاراً، اللهم أرسل عليهم الرياح العاتية، والأعاصير الفتاكة، والقوارع المدمرة، والأمراض المتنوعة...إلخ»، أو كدعاء بعضهم على الظالمين: «اللهم شل أركانهم، وجمد الدماء في عروقهم، وحرك فيهم ما سكن، وسكّنْ فيهم ما تحرّكَ...»، والظن بهم أن الذي حملهم على هذا التفصيل في المطلوب هو ما يعتمل في نفوسهم من التغيّظ والكره والحنق على أعداء الأمة، فاتخذوا هذا التفصيل تشفِّياً وتنفيساً عن غيظهم، وتعبيراً عن حنقهم وبغضهم، وربما قايس المأمومون قدر حنق إمامهم وكرهه للكفرة المعتدين بقدر إسهابه الدقيق في طريقة الإهلاك التي يسألها، وبقدر براعته في تصوير «سيناريو» الهلاك الذي يريده أن يحل بهم، فكلما فصّل في ذلك أكثر، ودقق تدقيقاً أعمق يرسم ملامح الإهلاك صورةً صورة، وفصلاً فصلاً، كان بذلك - في نظرهم - أشد كرهاً للكفار، وأبلغ غيرةً، وأكثر تأثراً بمآسي المسلمينً، ولو فقِهَ هؤلاء - أئمةً ومأمومين - آداب الدعاء؛ لأدركوا أن درجة الغيظ، ومبلغ الكره للأعداء لا يُقايس بهذا المسبار الكاذب، وإنما الذي يُقايَس بهذا المسبار هو قدرُ الالتزام بالسنة، ودرجة الوعي والفقه، فكلما فصّل في صورة الإهلاك أكثر كان أبعد عن السنة، وأقل فقهاً وأدباً مع ربه في دعائه. إن هذا التفصيل في تصوير الإهلاك المطلوب يتضمن «إملاءً» على الله، وكأن إهلاك الأعداء لا يكون إلا بإسقاط طائراتهم، وإغراق سفنهم، وتجميد الدماء في عروقهم.... وهل نسي هؤلاء - عفا الله عنهم - جنودَ الله الذين لا يعلمهم إلا هو سبحانه؟! ألم يدر بخلد أحدهم أن الله قادر على أن يهلكهم بأيسر مما سألوه؟! هل يظن هؤلاء أن الله سبحانه بحاجة إلى أن يقترح عليه أحد من خلقه صورة الإهلاك المثلى؟! ألم يكن لهؤلاء في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟! وهل كان أحدٌ أصدق منه بغضاً، وأخلص كرهاً لأمثال هؤلاء المعتدين؟! ألم تكن أدعيته كلها جوامع من جوامع الكلم؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا على قوم لم يفصّل تفصيل هؤلاء، ولم «يقترح» على ربه كيف يكون إهلاكهم، إنما كان يجعل اللهَ في نحورهم، ويعوذ به من شرورهم، ويسأله أن ينزل عليهم بأسه، وأن يرفع عنهم عافيته، وأن يشدد عليهم وطأته. فالتزموا أيها الأئمة بالسنةَ في الدعاء، واتركوا طريقة «الإملاء» و«الاقتراح»، فالله أقدر وأدرى وأحكم وأعلم، ولتعلموا أن سلامة القصد في الدعاء لا تضمن أجر المقصود؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.