عزيزي المعتدل، أو من يسعى إلى الاعتدال والوسطية في آرائه ومواقفه، أقول لك: تماسَك وتشبّث بمبدئك. فالواقع المحيط والمحتقن والمتشظي بين الطرفين، أو التطرّفين، سيسعى بكل قوة ودناءة أحياناً لإفقادك توازنك المحمود والمحسود على كرسي الوسطية والاعتدال. سيتهمك هؤلاء بأنك مع أولئك، ويتهمك أولئك بأنك مع هؤلاء، وأنت لست مع هؤلاء ولا أولئك، أنت مع الحق والصواب أيّاً كانت جهته. الإسلامي سيشنّع عليك ويسخر من اعتدالك بقوله: هذا صراع بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل. والليبرالي سيردّد عليك أيضاً الشعار الإمبريالي المناقض لليبرالية: إذا لم تكن معي فأنت ضدي. لا ترضخ ولا تستجب لهذه التهديدات الإقصائية، فالإقصاء لم يعد حكراً على طائفة واحدة كما كان يُشاع، بل حتى الفئة التي كانت تشنّع على الأولى إقصائيتها، عندما حمي الوطيس وفاحت الأخلاق الحقيقية، أصبح كلا الطرفين يغرف من المنبع التصنيفي/الشمولي نفسه. عزيزي المعتدل/ إذا قلتَ: «لستُ إخوانياََ ولكن ...» سيسخر منك أعداء الإخوان، لأنهم بإقصائيتهم لا يريدونك أن تعبّر عن رأيك في ما بعد (لكن)، مهما كان رأيك شرعياً أو دستورياً أو حتى ثقافياً. هم لا يريدون منك (لكن) ولا ما بعدها، يريدون منك فقط أن تشاركهم في حفلة الشتم واللعن المكارثية، من دون رأي منك، وهم كانوا قد سمحوا لأنفسهم قبل عام مضى أن يكتبوا: «لستُ ضد الإخوان ولكن.. أنا ضد مبادئهم»، وقال آخر: «لست ضد الإخوان ولكني.. ضد أطماعهم السياسية»، فأين الإنصاف؟! وإذا قلتَ: «أنا مع الشرعية ولكن...» سينبذك أنصار الإخوان، فهم أيضاً لا يريدون منك (لكن) ولا ما بعدها، هم يريدون فقط التأييد المطلق والأعمى، وما عدا ذلك فهو عندهم خيانة للأمانة. كانوا من قبلُ يرفضون مبدأ «الشرعية الدستورية» بالمطلق، والآن أصبحوا لا يقبلون إلا ب«الشرعية الدستورية» المطلقة. كلتا الفئتين، بمزاعم أن هذا زمن فرز الصالح من الطالح والمخلص من الخائن، ستطلب منك أن تتخلى عن اعتدالك ووسطيتك واستقلالك وحريتك في الرأي. وأن تتخلى عن مبدئك الإسلامي الرفيع: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). هم يريدون منك فقط أن تحدد موقفك الشمولي/المطلق: مع أو ضد. وإذا اخترت أن تكون (مع) فلا تقل للخطأ إذا رأيته: هذا خطأ، وإذا اخترت أن تكون (ضد) فلا تقل للصواب إذا رأيته: هذا صواب. فالصواب كله معنا.. والخطأ كله ضدنا. سيشككونك في دينك ووطنيتك وأمانتك وعقلك، لا لأنك ضدهم، ولكن فقط لأنك لستَ معهم دوماً. إذا كتبتَ اليوم ما يرضيهم طاروا بك وحملوك على أعناق مقالاتهم، وإذا كتبت من الغد ما يسخطهم شهّروا بك في مقالاتهم وقالوا بأنك تتزلف الفئة الأخرى كي يحضنوك. سيصفونك في اعتدالك بأن لا رأي لك ولا موقف لك وبأنك متلوّن، لا تستجب لفخاخهم التي تريد أن تشغلك بإرضاء الطرفين، بل انشغل بإرضاء ربك ثم نفسك وعقلك وضميرك، قل واكتب ما تراه صواباً وما تؤمن بأنه الحق.. سواء أرضي هذا أم أسخط ذاك. صاحب الرأي الحقيقي والصادق هو الذي ينشغل بالحدث لا بالمحدث وبالفعل لا بالفاعل. وصاحب الرأي النزيه لا يتخذ الشتائم ولا التخوين والتأليب والاستعداء طريقاًً للتعبير عن رأيه، فهذه حيلة العاجز القوي. وإذا استفزك أحدهم بأقواله ضدك وأردت أن ترد عليه، ففكِّر قبل الرد عليه: متى ستتوقف عن النزول معه في ردوده وألفاظه؟ هو سيجرك إلى الأسفل حتماً وقد قبلتَ أن تهبط معه للوهلة الأولى كي تلجمه أو تلقنه درساً كما تظن. حسناً هو سيهبط أكثر، هل ستهبط أنت معه أيضاً وإلى متى؟ هل ستقبل بالوصول إلى الحضيض؟! ستقول لا طبعاً لأنك معتدل ولا تحب الخوض في وحل المشاحنات، إذاً تجنّب الخوض مع هذه النوعية من الردود من أولها واحتسب ما نالك منهم من كذب وتزييف وتشويه عند الله الحفيظ. كل إنسان لديه القدرة على أن يكون قليل أدب، لكن ليس كل إنسان لديه القدرة على أن يكون رفيع الأدب. فيا أيها المؤدبون اشكروا الله على هذه النعمة. عزيزي المعتدل/ لا تُفرط في العداوة أو في الإساءة إلى أي أحد حتى لو أساءوا إليك، فهذه ليست من أخلاق المعتدلين المنصفين، ففي الحديث: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما). كونوا معتدلين في مشاعركم، فأنتم الذين تحفظون سفينة المجتمع من الميل ومن تلاعب الأمواج المغرقة.