عليَّ أن أعترف أولا أنني أجد صعوبة بالغة في توصيف الأشخاص بحسب انتماءاتهم الفكرية، فهذه الانتماءات لم تعد ثابتة كما أراد لها أصحابها الأوائل أن تكون؛ فلم يعد الشيوعي شيوعيا بالمعنى المعروف، ولا القومي قوميا، ولا الليبرالي ليبراليا ولا الإسلامي إسلاميا، وأصبحت هذه المصطلحات تتميز بالميوعة الشديدة لأن معظم المنتسبين لها لم يعودوا ملتزمين بتعاليمها، وأسباب ذلك تختلف من شخص لآخر أو من تيار لآخر، بحسب المصالح التي يراها كل فريق وأحيانا كل شخص وهذا ما جعل تصنيف الأشخاص في غاية الصعوبة. أقول هذا بسبب المعركة التي احتدمت بعنف بين ما يمكن أن يسمى التيار الليبرالي أو التحرري في السعودية، وبين الشيخ سعد الشثري عضو هيئة كبار العلماء في السعودية بسبب قوله في إجابة عن سؤال حول ما يقال عن الاختلاط في جامعة الملك عبدالله: «إن الاختلاط أمر غير مقبول، وإن الملك عبدالله لا يمكن أن يرضى به» وأثنى على الجامعة من الناحية العلمية، كما أثنى على جهود الملك عبدالله في رعايتها. هذا كل ما قاله الشيخ، لكن هذه الإجابة جعلت مجموعة كبيرة من الكتاب في الصحافة السعودية يشنون حملة شرسة على الشيخ وكالوا له أبشع التهم وأسوأها! فمن قائل: إن الشيخ يشارك بوعي أو من دون وعي في تعطيل حركة التقدم في البلاد، وإن حديثه عن الاختلاط مزايدة غير مستساغة. ومن قائل: إنه تمرد على النظام وخرج على واجبات وظيفته! وآخر يقول: إن الشيخ شارك في حملة التشويش ضد البلاد وإن كلامه يصب في مصلحة الإرهاب! واتهمه آخرون بأن فهمه للإسلام قاصر، وأنه لا يعرف معنى الاختلاط ولا حكمه... فريق آخر دعاه لترك وظيفته، وحاول بصورة ملتوية تأليب الملك عليه! والأدهى والأمرّ محاولة البعض التأليب على قناة «المجد» التي تحدث فيها الشيخ واتهامها بترويج الإرهاب ونشر الفتنة مع إضافات أخرى تناسب المقام! أما اتهام الشيخ بأنه لا يحسن اختيار المكان الذي يجب أن يتحدث فيه مناصحا ولي الأمر فقد كرره معظم الذين شنّعوا عليه... تأملت هذه الحادثة فبدت لي عدة أمور تثير العجب والاستغراب منها: أولا: إن كل الذين شنعوا على الشيخ من دعاة حرية الرأي، ومن المنادين بالحوار بين جميع فئات المجتمع، وضرورة الابتعاد عن إقصاء الآخرين مهما كانت توجهاتهم الفكرية؛ وهذه المبادئ في مجملها تتفق مع مبادئ الليبراليين؛ دعاة الحرية واستيعاب الآخرين، ومن دعاة التحرر على اختلاف توجهاتهم الفكرية. كل هؤلاء تناسوا أن من حق الشيخ - وسواه - أن يبدي رأيه في الجامعة وسواها، وان من حقه أن يعبر عن قناعاته حتى وإن اختلفت مع كل قناعاتهم، فهو بحكم مواطنيته له أن يتحدث عن كل ما يجري في بلاده بحرية تامة، وليس لأحد أن يمنعه من قول رأيه... لكن هؤلاء مارسوا عليه إقصائية مقيتة كانوا يحاربونها ويتهمون غيرهم بممارستها فإذا هم اليوم ينقلبون على كل ما كانوا يقولونه، وإذا دعواتهم لحرية الرأي تذهب إدراج الرياح، فليس من حق الشيخ - وربما سواه - إلا أن يقول ما يقولونه ويرى ما يرونه وإلا فالويل - كل الويل - له. ثانيا: ومن العجب العجاب أن يطالب هؤلاء الإعلاميون بمحاربة وسيلة إعلامية، وان يحرضوا عليها بشدة وكل جريمتها أن الشيخ - وهو واحد من هيئة كبار العلماء - قال رأيا من خلالها لم يعجبهم! كان من المفترض أن يطالب هؤلاء بحرية الإعلام، ومنع القيود على حرية الرأي - وأعرف أن بعضهم فعل ذلك - لكن عندما تكون هذه الحرية لا تتماشى مع قناعتهم فعليها السلام ولتذهب إلى الجحيم! هل هذه هي مبادئ الحريات الإعلامية التي يعرفونها؟! أليس من المصلحة أن نجعل هذه المطالبة عامة حتى وإن خالفت أهواءنا! الواضح أن صدورهم لا تتسع لشيء لا يتفق مع رغباتهم، ولا بأس أن يستخدموا كل الوسائل البائسة لكي يصلوا إلى أغراضهم. ثالثا: وقد اختلفت - قليلا - آراؤهم حول الاختلاط الذي يقال إنه في الجامعة؛ فمن قائل إنه ليس محرما لأنه يختلف عن الخلوة، وآخرون يرونه نتاجا طبيعيا للتقدم الذي تمر به البلاد ولهذا - حسب زعمهم - ليس من حق الشيخ أن يعترض عليه! وأعجب من هذا الفهم الأحمق، فإذا كان من حق هؤلاء أن يفتوا برأيهم في مسألة الاختلاط وهم جميعا غير متخصصين في الفتيا فلماذا ينكرون على الشيخ أن يقول رأيه فيه مع أنهم يعرفون أنه أكثر منهم علما كما أنه عضو في أعلى هيئة علمية في السعودية! أما كان يسعهم الصمت على الأقل احتراما للتخصص والمسئولية أم أنه يجوز لهم - مع جهلهم بالفتيا - ما لا يجوز للشيخ المؤهل من كل وجه! أجزم أنهم يعرفون ذلك كله... ولكن في النفس ما فيها... والفرص لا تأتي كل يوم... وهم يريدون اغتنام هذه الفرصة بالرغم من كل الزلات والعقبات وليكن بعد ذلك ما يكون! رابعا: ومن عجائب الأمور اتهامهم للشيخ تصريحا أو تلميحا أنه ينتمي للإرهابيين فكريا، وان هذه الفتوى تصب في صالح الإرهاب الذي عانت منه السعودية وأن هجومهم عليه بسبب كراهيتهم للإرهاب وحبهم لبلادهم! أعرف أن بعض هؤلاء من السذج الذين لا يفرقون بين «الإرهاب والكباب» وأضحك كثيرا عندما أرى في بعض وسائل الإعلام أنها تقدم هذا الشخص على أنه خبير في «القاعدة» وآخر على أنه خبير في الإرهاب وهكذا، مع أن هؤلاء أجهل من حمير أهلهم في هذه القضايا، بل إن صورتهم وفهمهم للإرهاب يصب في مصلحة الإرهاب والإرهابيين تماما مثل حديث بعض أولئك الكتاب عن الشثري الذي يصب تماما في مصلحة الإرهابيين... لكن الجهل - قاتله الله - يصنع العجائب! ثم أن الشيخ الشثري وأسرته كلها ذات تاريخ معروف في الاعتدال، والتدين السليم، ولو عرف هؤلاء هذه الحقيقة لصمتوا عن مثل ذلك القول، لكنه - ومرة أخرى - الجهل الذي يورد أهله المهالك! خامسا: أما الأقوال الأكثر سخفا وهزالا فهو ادعاؤهم أن فتوى الشيخ إساءة للدولة والملك وأنه ليس من حقه أن يقول شيئا يخالف ما عليه الدولة لأنه موظف فيها! عجبي أن تصل عقليات من قال هذا إلى هذه الدرجة من الهزال، وعجبي من قال هذا كيف تصل به شهوة الانتقام إلى هذه الدرجة! واسأل هؤلاء: هل الجامعة وحدها هي كل الدولة؟ أليست كل الجامعات الأخرى مثل هذه الجامعة؟ أليست كل وزارات الدولة جزءا من هذه الدولة؟! فإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك - فلماذا ينتقد هؤلاء معظم أجهزة الدولة؟! أحلال لهم فعل ذلك حرام على سواهم؟! بل ولماذا يفتري الكذب بعض هؤلاء على بعض أجهزة الدولة؟! أقول: إذا كان رأي الشيخ في الاختلاط خروجا على طاعة ولي الأمر فإن ما فعلوه أكثر بكثير مما فعله الشيخ، وبحسب قواعدهم فكلهم خارجون على الدولة وقياداتها! هل يقبل هؤلاء أن يكونوا في الخانة نفسها التي وضع الشيخ فيها؟! سادسا: قال بعضهم إن قناة «المجد» ليست إسلامية، وإنها تسعى لكسب المال، وإنها تتبنى اتجاها واحدا غير مرغوب فيه! والمضحك أن الذي قال هذا الكلام ينتمي لأسوأ قناة (عربية)، فكرا وسلوكا وهدما للقيم، وهو يعرف أنها قناة تجارية تبحث عن المال بكل الوسائل! فلو كانت قناته خيرية لعذرناه، ولكن الجهل والهوى يفعل الأفاعيل! أحرام على «المجد» أن تكون تجارية حلال لكل قناة أن تكون كذلك... وأخيرا: أجزم أن فتوى الشيخ سعد الشثري ليست هي السبب في كل هذه المعركة ضده، بل هي الوسيلة لحرب أكبر لا علاقة له فيها البتة غير انتمائه لتيار يكرهه أولئك بصورة لا مثيل لها... كل علماء المملكة يقولون بحرمة الاختلاط، وكل من تولى الإفتاء في السعودية يقول بحرمة الاختلاط، فهذه الفتوى ليست جديدة ولا شاذة، وهم يعرفون ذلك، إذا فلماذا هذه الحملة الآن! يدّعي كل أنصار التيار المتحرر الذين يرون ضرورة التحرر من بعض القيود الشرعية أن «المشائخ» كانوا وراء كل القيود التي عانوا منها عشرات السنين، وأنهم - أي المشائخ - حاربوا أهواءهم وبشدة وبدعم من الدولة. ويرى هؤلاء أن الظروف بدأت تتغير لصالحهم - وهي فرصة حلموا بها طويلا - فلماذا لا يستغلونها وبكل قوة إسقاط المشائخ وفتاواهم التي تغيظهم، وعن طريق كبار المسئولين يمكنهم الوصول إلى تلك الغاية! إذا ما المانع من القول: إن الشثري يعمل ضد أهداف البلاد! ولأن الإرهاب عدو الجميع فما المانع من إلصاق تهمة الإرهاب أو التحريض بالشثري! وإذا سقط الشثري سيسقط آخرون؛ الواحد تلو الآخر! عندها ستخلو لهم الساحة، وعندها لن يمانع أحد في الاختلاط ولا في سواه! هذا هو السبب كله فيما أعتقد، لكنهم - كما أظن - لن يصلوا إلى شيء لأنهم استعجلوا النتائج، وأظنهم سيقولون قاتل الله العجلة... ليتنا سلكنا سبيلا آخر لكان خيرا لنا وأحسن... وكلمة أخرى أقولها للمؤسسة الدينية في السعودية على اختلاف توجهاتها: أوضاعكم عموما لا تبشر بخير، ومن الأفضل أن تفكروا بوسائل أفضل في التعامل مع كل المستجدات مهما كان نوعها... لا تفكروا بعقلية القرن الماضي حيث كنتم كل شيء فلكل زمن رؤيته ولكل زمن رجاله... إن لم تفعلوا ذلك فعلى مؤسساتكم وعليكم السلام... ومع أن الشيخ قدم استقالته تحت كل تلك الظروف القاهرة التي مورست عليه إلا أن تلك الاستقالة ليست نهاية المطاف.