هناك نظرة سطحية للديمقراطية في العالم العربي، وهي أن الديمقراطية مجرد حكم الأغلبية، بغض النظر عن المرجعية الفكرية للدولة والثوابت الوطنية، والحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية لكل إنسان يعيش في ظل هذه الدولة الديمقرطية. فكثيرون يعتقدون أنه بمجرد حصول فصيل سياسي على أغلبية الأصوات فإنه يحق له أن يفرض مرجعيته الفكرية الخاصة على الدولة والمجتمع ويقنن القوانين وفق رغباته الضيقة! وهذا بلا شك نتاج عملية تضليل إعلامي مهولة مورست طيلة عقود إزاء الديمقراطية بقيادة الاستبداد وأصحاب الفهم الضيق من الفقهاء والمنتفعين من نخبة رجال الفكر والثقافة. ولو نظرنا إلى الدول الناجحة ديمقراطياً لوجدنا أنها حسمت أمرها فيما يتعلق بالمرجعية الفكرية العامة للدولة بغض النظر عن مرجعية كل فرد، وهذه المرجعية مهما بلغت الدولة من التقدم في سلم الديمقراطية فإنها غير قابلة للتغيير مهما بلغ حجم المخالفين لها! ويعبر عنه إعلامياً ب(المبادئ فوق الدستورية). فمثلاً في أمريكا تستمد المرجعية الفكرية العامة للدولة فكرتها من طروحات فلاسفة عصر التنوير الأوروبي بكل تفاصيلها، التي من أهمها عدم تدخل رجال الدين في الدولة. وعندما بدأ المد الشيوعي رأى العالم كيف أن أمريكا دافعت عن مرجعيتها بعيداً عن الديمقراطية وحاربت بعنف كل من يحاول فرض الفكر الشيوعي على الدولة، وعرفت تلك المرحلة ب«المكارثية». وفي أوروبا تستمد الدولة مرجعيتها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو كذلك مسلم به وغير خاضع للتصويت! ففي بريطانيا وفق أحد الاستطلاعات يؤيد كثيرون عودة أحكام الإعدام، لكن بالطبع من المستحيل أن تتم مناقشة هذا تحت قبة مجلس العموم! ومن الطريف أن «رسالة التسامح» لجون لوك دعا فيها إلى نشر التسامح مع الجميع، بما فيهم «المحمديون» (المسلمون) بينما رفض التسامح مع الكاثوليك والملحدين! لأن الكاثوليك لهم ولاءات خارجية والملحدين ليسوا موضع ثقة. وبعد قرون واتفاق الجميع على مرجعية ثابتة للدولة يرى الجميع كيف أن البروتستانتي يدلي بصوته للنائب الكاثوليكي أو اليهودي أو حتى الملحد. ونحن في العالم العربي أفرطت النخب الدينية والمثقفة في الحديث عن المرجعية الفكرية للدولة الوطنية! هل هي جزء من العالم العربي أم جزء من العالم الإسلامي؟! وهل مرجعيتها دينية أم علمانية وهل شكلها تقليدي (استبدادي) أم مدني حديث قائم على المؤسسات؟ وغرق هؤلاء في تفاصيل أيديولوجية خيالية، بينما الشعب يرزح تحت وطأة الاستبداد والتبعية الأجنبية ويعيش تحت عملية ابتزاز، ومقايضته بكسرة رغيف مقابل ما تبقى من كرامته! واليوم وبعد مرور ما يقارب العامين من أول موجة احتجاجات في الربيع العربي عادت ديناصورات الفكر والثقافة والدين إلى المشهد لمصادرة آمال وتطلعات الشباب لإعادة جدلها الأيديولوجي العقيم وصراع الديكة بعيداً عن الواقع ومتطلباته، وبعيداً عن الخطوط العريضة والمبادئ العامة التي يشترك فيها الجميع ويتفق حولها معظم الشباب العربي من المحيط إلى الخليج.