يستيقظ الحاكم المستبد كل صباح وهو يقلب أوراقه الحياتية، يحرك فيها أفكاره وأوهامه على رقعة الهواجس كقطع الشطرنج محاولا ترتيبها، بحيث يبقى الملك المنتصر حتى اللحظة الأخيرة تحميه قلاع على أطراف الرقعة.. مثل هذا الأمر يشكل له نوعا من القلق المزمن الذي يتقافز أمامه، يستلب منه منامه وهو ينظر لباقي القطع التي يخشى أن تتدحرج باتجاهه لتسقطه، فلا بد إذا من اختراع حاجز صد أو شبح يخيفها فتلتف حوله تستجديه الحماية من ذلك الطوفان الذي سيدمرها. يفهم الحاكم المستبد هذه المعادلة جيداً فلا يتواني في إروائها لتبقى طرية تضج بالحياة التي من خلالها يستمد حياته وبقاءه ويسرد لنا التاريخ الكثير من هذه الأمثلة. بعد الحرب العالمية الأولى والثانية وأفول نجم الامبراطورية البريطانية برزت أمريكا كقوة محورية في قيادة العالم مستغلة في نفوذها تلك القوة العسكرية الجبارة والاقتصاد المزدهر، فعمدت في سبيل تأييد شعبها لنظامها المستبد إلى اختراع عدو وهمي متجدد فوجدت في الفكر الشيوعي ممثلا بالاتحاد السوفييتي عدوا وهميا مناسبا للمرحلة وأصبحت تسوّق لهذا الخطر بين حلفائها الذين كانوا يرون فيها المخلص لهم من هذا الخطر الداهم الذي يتهدد وجودهم. ودخلت الدولتان ومن حالفهما في حرب باردة طويلة الأمد ازدهرت فيها تجارة الموت ومقايضة النفط بالسلاح واستنزاف موارد العالم الطبيعية خاصة في دول العالم الثالث التي يقع الوطن العربي ضمن نطاقها، وبقيت الحرب الباردة إلى أن تم تقويض أركان الاتحاد السوفييتي وتفتيته، فكان لا بد من ظهور عدو وهمي جديد تفتقت عنه عبقرية دهاقنة المكر فيها باختراع أسطورة الخطر الإسلامي على الحضارة الغربية، ولصعوبة تسويق هذه الفكرة بين العديد من حلفائها المسلمين تم الالتفاف عليها وإعادة صياغتها باسم الإرهاب، الأمر الذي سهل تمريره على الأنظمة العربية فانساق بعضها بوعي أو بدونه إلى تلك الرؤية، تارة خوفا من ذلك العدو الوهمي وتارة أخرى استسلاما للقوة العظمى الجديدة. معظم أوطاننا العربية، لم تنج أيضا من وجود الحاكم المستبد الذي يصنع العدو الوهمي الخاص به أو التعلق بالعدو الوهمي العالمي وأحيانا الجمع بين تشكيلة من هؤلاء الأعداء وكلما ازداد خوف الحاكم المستبد أفرزت أجواء ذلك الخوف عدوا جديدا. ففي خمسينات القرن الماضي اكتسحت الثورات مناطق ودولا من العالم العربي وتحول العديد منها من أنظمة ملكية وراثية إلى أخرى جمهورية ديمقراطية اعتنقت النظرية الاشتراكية والبعثية واخترعت عدوا تمثل في معظمها بجماعة (الإخوان المسلمون). وهنا وقعت الدول الخليجية بين فكي كماشة تلك الدول، فكان لابد من اختراع عدو وهمي فتبنت الفكرة الأمريكية التي تعادي الشيوعية، وأخذت تحذر من هذا الخطر الداهم كي توقف تيار الثورات الذي كان يجتاح الوطن العربي حينها، فكانت تتهم كل مصلح أو ذي رأي حر بالانتماء لهذا الفكر الشيوعي الملحد وتنعته بصفة الكفر والخروج على الدين في حين أنها كانت تتخوف من حرية الكلمة والرأي. ولأن مجتمعاتنا الخليجية في خمسينات القرن الماضي كانت إلى حد ما تعيش حياة القبيلة البدائية وتفتقر إلى الثقافة عموما خاصة السياسية والفكرية فقد تقبلت فكرة ذلك العدو الوهمي والتفت حول أنظمتها محاربة كل فكر وكلمة حرة حتى وإن كانت بعيدة عن مبدأ الثورة وتغيير الأنظمة، فاعتبروا كل مفكر شيوعيا وملحدا، وكل مصلح بأنه عروبي وقومي وناصري أو إخواني وأسماء وتسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وزج بالكثير من المصلحين وأصحاب الرأي في غياهب السجون لإخماد تلك الفتنة كما يسميها النظام. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ظهر الرئيس بوش يقسم العالم إلى فسطاطين بمقولته الشهيرة «من ليس معنا فهو ضدنا» لذا فقد اتسع نطاق العدو الوهمي ليشمل أكثر من نصف العالم، ومع هذا كان لابد من تسمية عدو ما تستطيع أمريكا محاربته في عقر دارنا، فكانت القاعدة. وتم تدبير حادث أبراج التجارة في نيويورك وتجرع العرب مرارة هذه الجريمة وأراد العالم أجمع تصديق الرواية الأمريكية التي كذبتها تقارير ومصادر عدة، وبدأت بها أمريكا عصر الحروب الحديثة، فهاجمت أفغانستان واحتلتها لتضرب عدة عصافير بحجر، فقضت على فكرة الجهاد الإسلامي المناوئ للاستعمار الحديث، ثم اختراق مثلث الصد الذي خطط له بريماكوف للحد من الهيمنة الأمريكية على دول الشرق وحدد أضلاعه بروسيا، الصين والهند، ثم تدمير العراق البعثي حجر الزاوية في المقاومة العربية ضد الهيمنة الغربية عامة والأمريكية خاصة عن طريق إغراء صدام حسين بغزو الكويت الذريعة التي اتخذتها أمريكا لزرع قواعدها في دول المنطقة وتصوير صدام حسين بأنه هولاكو العصر الذي سيغير جغرافية المنطقة، فأصبح العدو الوهمي الثاني إلى جانب القاعدة وكالعادة تلقفت دول الخليج العربي هذين العدوين وتبنت الخيارات الأمريكية في محاربتهما والآن تقرع طبول الحرب ضد عدو جديد هو إيران باعتبارها الخطر الحقيقي الذي يهدد الاستقرار العالمي. لقد أصبحت منطقتنا تعج بهؤلاء الأعداء الوهميين وأصبح كل من حاول التعبير بكلمة حرة أو فكر إصلاحي يدرج تحت قوائم هؤلاء الأعداء ولكن الحقيقة هي أن هذه الأنظمة التي استشرى فيها الفساد والاستبداد وأصبحت مشحونة بالخوف، ترى أن بقاءها مرهون بوجود عدو وهمي تستقطب ضده فئات الشعب لتشكل جدار حماية ضد انهيارها.