بصيرة الداود - الحياة اللندنية هل كذبنا الكذبة على أنفسنا ثم صدقناها؟! يقولون: إن العالم العربي الذي يتمتع بأنظمة سياسية شمولية توجد فيه «حرية وإصلاح وليبرالية وديموقراطية وشفافية»... الخ. فهل تتوافر تلك القيم حقاً في الأنظمة الوراثية، الفريدة من نوعها؟! لماذا لم يتغير شيء كثير حتى الآن في عمليات الإصلاح الشامل في بلادنا العربية؟ هل كان ذلك بسبب استمرار مطالبة المشاغبين الخارجين عن القانون والأعراف التقليدية للأنظمة العربية من ليبراليين وعلمانيين وديموقراطيين وشيوعيين وقوميين وغيرهم، ورفعهم الدائم لشعار المطالبة بالعمل والإسراع في إصلاح الدول العربية بكل مؤسساتها ومجالاتها؟ الأمر الذي انعكس بدوره على أنظمتنا السياسية «المحترمة» لترفع من جانبها شعار العمل على الإصلاح ولكن بشرط أن يكون من الداخل وليس من الخارج، في محاولة منها لإسكات كل الأصوات المحمومة والمحرضة ضدها! مقولة: الإصلاح من الداخل وليس من الخارج هي في الواقع – عزيزي القارئ - «سهلة ممتنعة» كونها استحوذت على اهتمام كبار رجال الفكر والسياسة والإعلام في عالمنا العربي بحيث لم يتمكنوا حتى اللحظة من إيجاد مفهوم محدد وواضح يفرق بين معنى الداخل والخارج، ومن المقصود به تحديداً؟! ولماذا تحتكر شريحة من المثقفين العرب المحسوبين على أيديولوجيات الخمسينات والستينات من القرن الماضي تفسير هذه المقولة؟ وإعطاء أنفسهم الحق كاملاً كي يكونوا متحدثين ومحددين لرغبات وتطلعات أبناء مجتمعاتهم وفق أفكار وايديولوجيات منتصف القرن الماضي؟ إن الكثير من هؤلاء المثقفين يسير على وتيرة ما يؤمن به وما اعتاد عليه، أما بقية المواطنين من فئة الشباب الذين أصبحت شريحتهم تمثل النسبة الأكبر في المجتمعات العربية فهؤلاء سيبقون في نظر قياداتهم الثقافية والسياسية «صغاراً وأطفالاً» لا يعرفون أين هي مصلحتهم ومصلحة أوطانهم وأمتهم! وفي ما يتعلق بمقولة «التدرج في الإصلاح» بحجة أن المجتمع منغلق ومحافظ دينياً، وثقافته المعرفية لا تزال أبوية، وتعليمه تقليدي تسيطر عليه المؤسسات الدينية، والنخب الثقافية التقليدية لا تزال تحتكر فيه المرجعية الفكرية والثقافية، فهذه الأخطاء لا يجب أن يتحمل وزرها إلا من أوجدها وزرع أسسها داخل المجتمع وبالتالي فعليه تقع مسؤولية تخليص مجتمعه منها. والتدرج في الإصلاح عملية تسويف أخرى تمارس على المجتمعات العربية في ما هو في واقع الحال لا يزال قيد الماضي الحذر من استقبال كل جديد، بل وتعاني هذه المقولة عقدة النقص عند مواجهة متطلبات الانفتاح على مرحلة معاصرة، وتواجه بقوة كل مطالبات التحدي للأعراف والتقاليد الأكثر تجذراً في المجتمعات العربية، ويأتي في مقدمة المطالبين بذلك، التيار التنويري ذو الاتجاهات الليبرالية أو الديموقراطية أو العلمانية. ولو تعمّقنا في فكر التيار التنويري ذي الاتجاهات الليبرالية في عالمنا العربي - كمثال - لقرأنا منذ اللحظة الأولى عنوانه الذي تقتصر حدوده فقط على الجوانب السياسية والثقافية وبعده الكامل عن الخوض في مناقشة مسائل أخرى تتعلق بالقيم الأسرية والاجتماعية. لقد اتُّهم أتباع هذا التيار - ولا يزالون - بتبعيتهم للغرب! على رغم أن نشأته في العالم العربي تاريخياً جاءت قبل نشأة القومية العربية، وما يسمّى بالأصولية الإسلامية. وكان التيار الليبرالي أول تيار يحذر من الاستعمار، بل إنه كان يقترح البديل الفوري عنه وهو العمل الدائم على الإصلاح تجنباً لأخطار نتائج الاستعمار ووخيم عواقبه، ولهذا فهو يعد من التيارات الرائدة في التاريخ، وأصبح في أيامنا هذه يعاني مفارقة عجيبة، إذ لم يسلم ارتباط اسم الليبرالية بخطر أي استعمار جديد على المنطقة، بل ويُحمّل كل مسؤولية ناتجة عن وقوعه! في حين أن المواقف السياسية والدينية المحافظة لا تزال تتلكأ في عمليات الإصلاح التي يطالب بها التيار الليبرالي وغيره، ولا تعلم هذه القوى السياسية والدينية أنها تضيع تاريخياً وقتاً ثميناً في نقاش بعض جوانب الإصلاح، والحوار حول أحكامه من منظور شرعي وفقهي وكلامي، واستعمالها أحياناً مصطلحات قد تكون تراثية وقد تكون حداثية تناقَش في مبانٍ مخصصة للحوارات الوطنية بعيداً تماماً من إشراك المواطن البسيط من عامة المجتمع، وحصر مثل هذه الحوارات الإصلاحية بالنخب من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين الذين يوهم أمثال هؤلاء بأنهم متحدثون باسم العامة من المواطنين ومعنيون بشؤونهم، فيما هم في الواقع يتحدثون باسم ورغبات السياسة والدين والأعراف والتقاليد! يجب أن نفكر في الجهد الكبير الذي ضاع هدراً من التيارات التنويرية في عالمنا العربي وبمختلف اتجاهاتها، إذ ذهبت بعيداً جداً في البحث ومناقشة مناهج التأصيل الأيديولوجي لها من أجل أن تتنصل من تهم التكفير والعمالة التي تطاردها بها تلك التيارات المحسوبة على الدين أو السياسة، فلم تعد تبذل مجهوداً يذكر في التعمق الحقيقي لفهم وقائع الحضارة المعاصرة الجديدة وتطوراتها السريعة المتلاحقة. وعلينا أن نتوقف بعيداً من مجاملة أي طرف من الأطراف سواء كان سياسياً أو دينياً أو ثقافياً لنجيب عنه بمنهج علمي واضح مبينين للجميع من دون تحيز أن حقيقة الإصلاح تعني غرس وبث قيم الديموقراطية وواجباتها شئنا جميعاً ذلك أو أبينا، ولكن لكي تبث الديموقراطية يجب أن تغرس أولاً وقبل كل شيء قيم الليبرالية المنشودة في حقوق الإنسان ودولة القانون. ولكن وبكل أسف لا تزال الليبرالية تمثل العدو الأول والأخير الذي يطارد أتباعه الأنظمة السياسية والدينية العربية خصوصاً التقليدية منها!! فكيف إذاً نتحدث عن الإصلاح؟ وما صيغته؟ وهل هو خدعة أم حقيقة لمسناها وجنينا فوائدها على أرض الواقع، أم إنها مجرد كلمة يخدر بها عقل الإنسان العربي في مرحلة تكثر فيها تحديات تاريخية معينة تنسى بعدها هذه الكلمة بزوال هذه المرحلة؟ أعتقد أن مثل هذه الأسئلة الكبيرة بحاجة إلى عقليتك أنت عزيزي القارئ لكي تجيب عنها، مهما كان موقعك الاجتماعي، إنساناً بسيطاً من عامة المواطنين، مفكراً أو عالماً، سياسياً أو رجل دين، فأنت في رأيي، تبقى الأجدر والأحق بالإجابة عنها.