في مكتبته التي تغص بالكتب المتناحرة ، ووسط سحاب دخان سجائره المتلاحقة كتب مثقفنا المحبط هذه الرسالة : إنني أعيش حالة إحباط شديدة تجعلني متذمراً على الدوام ، وناقماً على كل شيء من حولي ، والسخط معي ليس له حدود . إنني أعيش عزلة حقيقية في مجتمعي ، ولا أحس أنني جزء منه إلا عندما ألعب البلوت وأتابع مباريات فريقي العاصمي ، فأنا معتقل داخل زنزانة انفرادية صغيرة في أقصى سجن النخبة ، ولا أعلم هل نحن الذين انسحبنا تكتيكياً وتوارينا خلف كتبنا أم مجتمعنا هو من همشنا وأقصانا في بروجنا العاجية . أحس في حالات كثيرة أن دوري هو البحث عن دور ، ولا أعلم هل قضيتي الآن هي الإصلاح أم الوجود ، إنني عاجز عن ممارسة طموحي في قيادة المشهد وتصدره ، وخشبة المسرح اختطفها من لا بضاعة لديهم . طرحي العميق مستقر في قاع محيطي لا يراه أحد ، والقشور التافهة هي القادرة أن تطفو على السطح ويراها الجميع ، فهل أحيا مع القشور أم أموت في الأعماق ؟!!.. أولويات الشارع ليست هي أولوياتي ، فلا أنا قدمت لهم الحلول في قضاياهم ، ولا أقنعتهم بالقضايا التي أحملها ، فصرت كمن يبيع الدراجات الهوائية على مبتوري الأقدام . كنت أعيش حالة جميلة مع عظمة الأفكار وبهاء المفكرين ، واليوم أعيش حالة تحزب فكري وتخندق منحاز ضد خصومي ، فأنا أقاتل مدافعاً عن مصالح فريقي الضيقة على حساب مصالح الأمة الواسعة . في حالة ضعفي أهرب من مضمون الأفكار المهمة التي أؤمن بها إلى الأشكال التعبيرية ، والمساحات الفنية التي تشعرني بأنني مازلت أقوم بأشياء مهمة ، وأرشي ضميري حتى لا يسألني السؤال المزعج : (هل هذه هي الأهم) ؟!!. إنني أشعر بالغيرة الشديدة والظلم الكبير لأن كعكتي لا تكاد ترى حينما تقارنها بالكعكة التي استحوذ عليها السياسي والشيخ ، فالتأثير الحقيقي بيديهما ، والجموع تسير خلفهما ، وأنا أكتفي بالمراقبة والمشاغبة ، ولا أعلم حينها هل أنا ضحية السلطة أو العالم أو المجتمع أو كل ما سبق ؟!!. كنت أحلم أن أصنع الوعي الجديد لمجتمعي بحكم وصفي الثقافي كمثقف ، ولكني وجدت نفسي أكتفي بالمشاكسة الثقافية ، واجترار المعارك الجزئية الهامشية التي لم ولن يحسمها أحد . علمتني الحياة أن المثقف الحر لا يشبع ، والمساومات والتوظيف من أصحاب المال والنفوذ لا تقاوم ، والأصدقاء السابقين الذين تعاملوا مع الثقافة على أنها "بريستيج" اجتماعي ، وفرصة مواتية للبحث عن المصالح الشخصية عاشوا حياة مترفة ، ويزورون أوروبا في كل صيف . التوقيع ... مثقف .