د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف - الجزيرة السعودية أكثر من مئة ألف قتيل بريء ذهبوا ضحية العنف الطائفي في سوريا في ما يقارب العام، وأكثر منهم بكثير ذهبوا من قبل في كثير من الأمصار الإسلامية، قتل لا يعرف النهاية حتى مع تقدم العلم، وتطور المجتمعات. والعنف الطائفي موجود بالطبع في كل الديانات إلا أنه تقلص الآن في كل مكان نتيجة للوعي بعبثيته. فالكنائس التي احتربت في الغرب لقرون في بلاد يعتبرها بعضنا كافرة تتجاور اليوم بسلام ووئام، لا يفصل بينها إلا أمتار قليلة أحياناً، كل يمارس مذهبه ويعبد ربه بسلام ووئام ولا دخل لمذهب بمذهب آخر، بينما نحن فيما نحن فيه من استقطاب واحتراب، فهل كتب الانقسام على هذه الأمة للأبد؟ هذا السؤال يتبادر للذهن كلما تبصر الفرد في وضع الأمة المنقسم بشكل كبير اليوم: صراعات وحروب لا تعرف النهاية، فتن تؤججها السياسات الانتهازية التي تنخر جسد الأمة بحثا عن عوامل التحريض والتهييج؛ طائفية كانت، أو عرقية، مؤامرات لا تنقطع وكأنها تحولت إلى طبيعة دائمة وليست طبعا عابرا متحولا. والنهاية انقسامات، وفقر، وتخلف. ولا بد للأمة من وقفة مع هذا المرض الخطير الذي لم تبرأ منه لقرون طوال، ولا بد من وقفة جادة مع تاريخنا المذهبي ليعرف البسطاء المتقاتلون أن كثيراً من الانقسامات والحروب الطائفية ليست إلا ستاراً لمصالح ومطامع اقتصادية وسياسية. وليعرف المواطن البسيط الذي يزج به في آتون الحروب الطائفية، أن هذه الحروب كانت من أهم أسباب خسائر أمتنا الإسلامية وانحسارها. فتاريخنا الجميل الذي نتغنى به، ونبالغ أحيانا في تصوير عظمته لنعوض بخيالاته وخيلائه يقابله واقعنا المرير. والأمم المستضعفة تستعيض دائما عن التمعن في وضعها بالتغني بتاريخها وما كانت وما كان أسلافها. والواقع أن تاريخنا الرومانسي الجميل الذي يؤنس وحشة تفرقنا وبؤسنا لم يخل من الدسائس والمؤامرات، فنحن لم نكن يوما أمة واحدة إلا في عهد النبي وخلفائه الراشدين. فصلاح الدين الأيوبي، رمز عزة هذه الأمة، لم يكن ليكون ما كان لو حظي بثقة الخليفة الفاطمي الذي آثر أن يبقيه في الشام بعيدا عن عاصمة الخلافة التي يتلاعب بها خصيان القصور، فأراده قريبا من أعدائه الزنكويين، ولكن إبعاده دفع لصدامه مع العموريين وحلفائهم من الصليبين ليأمره الخليفة فيما بعد بغزو بلاد المقدس والتصدي للصليبين الذين أرسلهم ريتشارد قلب الأسد لنجدة العموريين علهم يضعفوا جيشه. فكان أن دحر هذا القائد العظيم، الذي لم يكن طائفيا، الصليبين وحرر أعز مقدساتنا، ليعود ويوحد الأمة بعد أن كانت منقسمة تشتم بعضها البعض الآخر على المنابر، فيوقف التشاتم ويحل التسامح. ونحن أيضا نتغنى بأن الخليفة العباسي الرشيد أهدى لشارلمان ساعة تحسب الوقت بمعادلة مائية دقيقة في القرن التاسع الميلادي، اختراع عظيم ومتقدم جدا بمقاييس تلك الأيام، ويقال بأن الرهبان انقضوا عليها بالهراوات تحطيما ظناً منهم أن بداخلها شياطين يحركونها. ولا بد أن نذكر هنا أننا أعدنا الصاع صاعين لهم بتحطيم مخترعاتهم للسبب ذاته بعد أحد عشر قرنا. ولكنه لم يخطر ببال أحد منا، ولم تذكر كتبنا المدرسية أو مصادرنا التاريخية عن سبب تقديم هذه الهدية الثمينة لحاكم كافر، أو عن سبب هذا الإعجاب المتبادل، أو خلفية الصداقة القوية التي ربطت الإمبراطورين اللذين كانت تفصلهما آلاف الأميال من الجبال الوعرة والمياه الخطرة، لم يخطر ببال أحد أن خليفة مسلما كان يتحالف مع إمبراطور فرنجي ضد حاكم مسلم آخر، والنهاية كانت أول انكسار للمسلمين في أوربا على يد شارلمان في بواتييه، وبداية النهاية لحكم المسلمين (الأمويين) في أسبانيا، وهو أمر نبكيه حتى يومنا هذا. فتاريخ التحالفات الإسلامية مع غير المسلمين طويل وحافل، لكننا لا نتوقف عنده لنتبصر به بعناية ونرويه ليس من قبيل جلد الذات ولكن من قبيل أخذ العبرة. وعلينا أن نعترف بعد كل هذه الخسائر والمجازر بأننا أمة لا تتعظ بالماضي، وتجتر أخطاءها الكارثية على مر العصور. ما نطلق عليه الفتنة الكبرى في تاريخنا، الفتنة الكبرى لأن أمتنا بدأت بعدها بالانقسام والتشظي، كانت بمثابة إنذار أول بخطورة التمزق والتفرق، تجاوزها التاريخ، وعفى عليها الزمن، ولكن أمتنا لم تتغلب عليها فأصبحت تلاحقها عصرا إثر عصر، وقرنا بعد قرن، ويظهر على رأس كل قرن من يجددها ويؤجهها، فكلما اقتتلنا وضعفنا التهمنا الغزاة من حولنا: المغول، الصليبيون، شارلمان، وأخيرا الأناضوليون. وبعد أن استتب الأمر للأناضلييون ليرسوا إمبراطوريتهم الشاسعة ذات الطابع السني، أرادوا التوسع في أوربا الصليبيية ربما ردا على حروب الصليبين على المقدسات الإسلامية. وبعد أن اقتحم الصدر الأعظم قرة مصطفي المجر للمرة الثانية وحطم حصون سلوفاكيا، وأصبح على مشارف فيينا، سمع أن أخاه المسلم الصفوي في إيران زحف عليه من الخلف، واحتل العراق، ويقال أن ذلك كان بتحالف غير مقدس مع صديقه الإمبراطور النمساوي. فتننا وللعجب لا تموت بل تنام أو تغفو لتصحو في أحلك الأوقات وأعقدها. قرونا غابرة تجاوزها الجميع إلا أننا نصر على البقاء في حياضها. فهل يعقل أنه بعد أربعة عشر قرنا لازال هناك في أمتنا من يرغب في إحياء هذه الفتنة القديمة، ويرفع أعلاما سوداء كانت رفعت أيامها!! فهل يعقل أن ترفع اليوم رايات فتنة نعتبرها وصمة في تاريخنا؟ والمحزن في الأمر أن من يقوم بذلك يدعي دائما أنه يقوم بذلك لإعادة أمجاد الأمة، وتاريخها، ومقاومة الأجنبي. والطريف في الأمر أننا دائما نستعين بأجنبي لمقاومة أجنبي آخر! لنا تاريخ جميل مشترك، ولغة مشتركة، وكتاب واحد، وعادات وتقاليد تكاد تكون متطابقة، وربما مصير مشترك، ولكننا نصر على تجاهل ذلك لنحيي بدلا عن ذلك صراعاتنا المشتركة. جاء الإمام ليجدد الدين فجدد الفتنة والبسها لبوس عصرية بمباركة استعمارية. ومنذ أطل علينا قدس الله روحه أطلت علينا الفتن من كل حدب وصوب، بل أنه فرخ لنا آئمة صغارا يكملون ما بدأه. والحصيلة عداوات بين الأبرياء من الناس تتجدد ويعاد أحياؤها، والأمة تضعف وتترنح أمام أعدائها الحقيقيين. عندما يفشل حاكم من أعدائنا في بلاد الكفر فإنه يستقيل، أو يحاكم، وعندما يفشل حاكم من بيننا فإن يقضى على نصف الشعب ليبقى في السلطة. مئات الآلاف من شعب سوريا يقتلون، وملايين منهم هجروا ويعانون من بؤس المخيمات، وآلام التشرد، كل ذلك من أجل الاحتفاظ بالسلطة، فأي بشر هؤلاء؟! ثم يفسر ذلك على أنه مؤامرة خارجية! فمشاكلنا دائما ليست بسببنا وليست منا وفينا، بل هي دائما من فعل الآخرين، وإن لم نجد من نلومه لمنا الشيطان. والعالم أجمع ينظر للوحشية التي نتقاتل بها بنظرة تقزز، وإشفاق. أربعة عقود تصدرنا العالم فيه في عدد الحروب والضحايا. حروب تشعلها غالبيتها فتن يفترض أنها انقرضت مع عصور جاهليتنا البائدة. عالمنا اليوم مقسوم لفسطاطين، فسطاط يريد السلام والتطور، وفسطاط ينشد إعادة نبش تاريخ الفتن البائدة. فسطاط يصنع وسائل الحياة وآخر يتخصص في وسائل الدمار. وأعداؤنا كالنسور التي تحلق في الفضاء لتلتهمنا جثثا هامدة بعد الاقتتال والاحتراب فيما بيننا. أصبحنا رمز الإرهاب، وعالة على القوى الخارجية، والأمم المتحدة التي بدأت تكل وتمل من مشاكلنا. فنحن لدينا فعلاً فتنة كبرى مزمنة، تجاهلها والسكوت عنها، كما يطالب بعض علمائنا، لم يزدنا لحمة بل زادنا تفرقا واقتتالا، فإلى متى هذا الانقسام والاحتراب؟.