يبدو أن «الربيع العربي» أصبح يُطلق على أي حركة احتجاجية في أي مكان في العالم، فوسائل الإعلام العالمية غطت أحداث تركيا الاحتجاجية على أنها تأثير الربيع العربي، علماً بأن تركيا يحكمها حزب منتخب وله قاعدة شعبية كبيرة، لكن «فوبيا» الربيع العربي بدأت تنتشر في الإعلام العالمي، ولذلك لا بد من تحليل ما يجري في تركيا والعوامل التي من الممكن أن تؤثر فيه، كمستقبل حزب العدالة والتنمية من ناحية شعبيته الجارفة التي مكنته من السيطرة على السياسة التركية لمدة 12 عاماً. لا شك في أن رئيس حزب التنمية والعدالة رجب طيب أردوغان قام بإنجازات كبيرة جداً بالنسبة للاقتصاد التركي وكذلك للحياة السياسية، فأصبحت تركيا خلال فترته من ضمن مجموعة العشرين الاقتصادية التي تمثل أكبر اقتصاديات 20 بلداً في العالم، وطوّر علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول الجوار، مركزاً على العالم الإسلامي في مشاريعه، مع الاحتفاظ بعلاقات مميزة مع الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ما جعله قائداً شعبياً لتركيا وفي محيطها الإسلامي، لكن التطور السياسي والطموح الشعبي لا يقف عند نقطة محددة، بل هو تطور مستمر ودائم وهذا هو الوضع الطبيعي لكل شعوب العالم. منذ اندلاع الأزمة السورية، وقفت تركيا إلى جانب الثورة، ورفعت السقف في مطالبتها النظام السوري باحترام إرادة شعبه، لكن مسار الأزمة أخذ منحنى دولياً من خلال الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا، قلل من دور اللاعبين الإقليميين ومن ضمنهم تركيا، ما قلص دورها كلاعب وحيد ورئيس، وكان لاستمرار الأزمة السورية انعكاسات على الداخل التركي، سواء على المستوى الأمني، كتفجيرات الريحانية، أو الاقتصادي من خلال توقف التجارة عبر الحدود السورية. بالنسبة لميدان «تقسيم» فيشكل رمزاً في استانبول وهو مكان للمظاهرات السياسية والاحتجاجات منذ وجوده، فهو ملتقى للمنظمات والأحزاب من شتى ألوان الطيف السياسي، إضافة للمؤسسات الأهلية، للتظاهر احتجاجاً على الحكومة أياً كانت، وله تاريخ في هذا المجال، ففي 16 شباط (فبراير) 1969، جرح نحو 150 متظاهراً يسارياً خلال مصادمات مع جماعات يمينية بما يعرف ب«الأحد الدامي»، وكذلك هناك أحداث دامية حصلت في هذا الميدان عام 1977، قتل فيها 36 متظاهراً يسارياً على يد جهات لم تحدد حتى الآن، يعتقد أنهم يمينيون متطرفون، لذلك تاريخ ميدان تقسيم مليء بالأحداث الدامية، ما يجعل الخشية مبررة من انفلات الأمور وتصبح الأمور خارج السيطرة. لقد استغلت المعارضة التركية بزعامة حزب الشعب فرصة البناء في ساحة تقسيم لمعرفة مدى تأثيرها على الساحة التركية، إذ تعلم هذه المعارضة أن مسألة إسقاط الحكومة صعبة إن لم تكن مستحيلة في الوقت الراهن، وهي حكومة منتخبة ولها تمثيلها القوي جداً في البرلمان، إضافة إلى الدعم الشعبي الذي تحظى به، لكن فرصة قرار بناء ساحة التقسيم ولما له من دلالات تاريخية رأت المعارضة أن تستغلها ضد حكومة حزب العدالة والتنمية، لعلها تستطيع من خلالها أن تخدش صورة رئيس الحكومة، وهو الشخص المستهدف من كل هذا الحراك. ينظر الكثير من المحللين والمراقبين لخطاب رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بأنه دائماً حاد، وهو ما ثبت عندما تحدث عن المحتجين في ساحة تقسيم، إذ نعتهم بنعوت كان من الأفضل تجنبها، لأنه هو الآن يمثل الشعب التركي بأطيافه كافة، بمن فيهم المحتجون في ساحة تقسيم، لذلك دائماً يفضل في مثل هذه الأحداث اتباع سياسة الاحتواء والتهدئة في الخطابات السياسية والإعلامية، حتى يحفظ السياسي لنفسه خط العودة في حال تغيرت المعطيات، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية عبدالله غل اتبع نهج التهدئة والاحتواء منذ البداية، ما يعطي مؤشراً بأنه إذا تطورت الأمور فمن الممكن أن تكون هناك إعادة هيكلة للحزب يكون رئيس الجمهورية هو زعيم الحزب. من ينظر إلى الاحتجاجات التركية، يخشى من تطورها إلى مطالبات شعبية، كما حدث في أزمة الطلاب في فرنسا عام 1968 التي أطاحت بالرئيس ديغول، بطل فرنسا ومحررها من الاحتلال النازي، ولكن تهاونه في تلك الأزمة أدى إلى تنحيه عن الحكم، إذ كان النشاط الطلابي في تلك الفترة مؤثراً في تشكيل الرأي العام الفرنسي، ففي أيار (مايو) 1968، أغلقت أبواب جامعة باريس في «نانتير» على إثر مشكلات بين الطلاب والإدارة، تعبيراً عن احتجاجهم على طرد طلبة جامعة باريس، فتظاهر طلاب جامعة السوربون في باريس، فتفاقم الأمر إلى احتجاجات شعبية، ساندها طلبة الجامعات بتوجهاتهم السياسية كافة، ما يجعل المراقبين والمحللين يخشون من تشابه بين الحركتين التركية والفرنسية، علماً بأن احتجاجات ميدان «تقسيم» بعيدة كل البعد من تشبيهها بحركة ميدان «التحرير» في القاهرة، لاختلافات كثيرة في الجوانب السياسية. إصرار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على تنفيذ مشروع إزالة حديقة «جيزي» وبناء بدلاً منها مبانٍ مماثلة لمساكن رجال المدفعية العثمانيين، التي تم تدميرها من مصطفى كمال أتاتورك ومناصريه، هي الشرارة التي كانت تنتظرها المعارضة التركية للنيل منه أو إضعافه على أقل تقدير قبل الانتخابات المقبلة، سواء البلدية أو التشريعية، وإظهارها لحزب العدالة والتنمية بأنه غير مهتم بالوضع الداخلي. الخشية أن تكون قضية ميدان تقسيم مقدمة لتقسيم المجتمع التركي، يتم استغلالها من اللاعبين الداخليين كأحزاب المعارضة والجيش، والخارجيين كالدول التي تخشى النمو التركي السياسي والاقتصادي، لا تستطيع معه الحكومة التركية احتواء الوضع، ولذلك على الساسة الأتراك، وأعتقد أنهم مدركون لهذه الأمور أن يكونوا على يقظة لما يدور حولهم ويخطط لهم. يخطئ من يعتقد أن الاحتجاجات التركية سوف تسقط أردوغان وحزبه، لكنها سوف تخدش شعبيته، ومن الممكن أن تغير نهج الحزب، الذي ركز في الآونة الأخيرة على السياسة الخارجية، وتغافل عن الوضع الداخلي من ناحية البطالة والتضخم، خصوصاً من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالقارة الأوروبية.