لا شك أن عددا من الدول العربية والإسلامية، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، تمر بمخاض كبير، ولا أظن أنني سأجانب الحقيقة إن قلت إن الولادة الجديدة عسيرة ومؤلمة ونتائجها في الغالب كارثية على شعوب المنطقة. بعض الدول أعيد إلى عصر ما قبل الصناعة وهو على وشك الضياع والتقسيم، والبعض الآخر الذي كان يعتقد أنه في منأى من الزلزال بدأ يترنح ولم تبق إلا دول قليلة يبدو في الظاهر أنها بعيدة عن هذه الفوضى غير الخلاقة. ولكن أي قراءة متأنية للواقع تقول لم تبق حصانة لأي بلد أو شعب في الشرق الأوسط. باستطاعتنا أن ننفث غضبنا ونوجه نقدنا اللاذع إلى الأنظمة - وهي تستحق كل هذا - ولكن الأمور اليوم يبدو أنها بدأت تفلت من قبضة الأنظمة، وكذلك من قبضة الذين يقاومون بطشها وإرهابها في معادلة خطيرة تقرّب المقاوم والمطالب بالحرية والحياة الكريمة من حيث بعض الممارسات وبعض الأهداف المعلنة في الأقل، وكأنه نسخة مكررة للنظام الذي يريد إزاحته. وهكذا نقرأ ونسمع، لا بل نستشف من الأحداث أن الناس تترحم على النظم الباغية السابقة لما تراه من ظلم أفظع بدأ يلحق بها من النظم الجديدة أو المجموعات الجديدة التي كان عليها تقديم نماذج إنسانية في شتى مناحي الحياة تفوق كثيرا من حيث الأخلاق الإنسانية والتعامل اليومي في إدارة شؤون البلد ما كان قبلها. ولأن الاضطرابات في البلدان العربية والإسلامية لا منهج محددا وموحدا لها ولا سياسة ذات بعد نظر ولا قيادة مركزية بإمكانها الإمساك بزمام الأمور والاستجابة إلى المتطلبات الأساسية لشعوبهم من أمن وخدمات ""لأنها تدار عن بعد من قبل قوى غربية لا تكن الود للعرب والمسلمين""، صار لكل صاحب شأن دور تنفيذي وتشريعي وقضائي في حياة الناس - أي الكل يفتي ""يصدر القرارات"" ويحاكم وينفذ. وفي خضم فوضى عارمة كهذه - وهذه ظاهرة تاريخية موثقة - يبرز دور المؤسسة الدينية. وهذا ما حدث في أوروبا حيث استغل رجال الدين الفوضى العارمة في القرون الوسطى وحتى عهد قريب، وقدموا أنفسهم كمنقذين ولكنهم في الواقع مدمرين ومفسدين في الأرض، ومفسدين لدينهم ونصهم السماوي لأنهم اقتطعوه واجتزأوه ومدوه ومطوه واختصروه وفسروه على مقاساتهم، وأزاحوا ما لا يوائم مصالحهم المذهبية والطائفية ووصلوا إلى درجة تكفير شعوب ومذاهب وطوائف برمتها والدعوة الصريحة إلى إبادتها - قتلها شر قتلة هنا في الأرض - والحكم عليها بنار جهنم في الآخرة. وما يحدث في المنطقة العربية والإسلامية في ظني ما هو إلا نسخة مكررة لهذه المرحلة الرهيبة التي كادت أن تقضي على أوروبا وتعيدها إلى عصر الظلمات، لولا بروز مفكرين وفلاسفة أنقذوها من براثن رجال الدين المتزمتين الذين يفرضون أنفسهم وكأن ما يقولونه هو النص المقدس وليس ما ورد في الكتاب ضمن السياق والمضمون والزمن والمكان والثقافة التي أتي فيها. لا أنكر أنني على اتصال مع بعض الدعاة والشيوخ من المسلمين، حيث فتح عمودي الأسبوعي في ""الاقتصادية"" بابا نتحاور من خلاله ونتراسل، وأنا مدين لهذا الحوار الذي زادني تنويرا عن الإسلام كنعمة للبشرية وكدين للتسامح وإيواء الآخر المختلف عنا دينا ومذهبا وعرقا ولونا. ولكنني من جانب آخر أقرأ وأسمع لدعاة وشيوخ كبار آخرين وضعوا السلطات الثلاث - التشريعية والقضائية والتنفيذية - في أيديهم فيكفرون قوما أو مذهبا أو ربما أمة برمتها ويدعون إلى القتل والكراهية والبغضاء علانية ويضعون كل شيء في قالب ديني مذهبي وطائفي، بينما الصراع والفوضى الحالية في البلدان العربية والإسلامية سياسية بامتياز. وهؤلاء يبدو أنهم لا يدركون مدى خطورة الوضع الحالي وتأثير خطابهم الذي يلعب على الأوتار المذهبية والطائفية الحساسة، وكيف أنهم يساهمون بطريقة مباشرة في حرق أمة بكاملها. الخلافات التي تعصف بالعرب والمسلمين بحاجة إلى الكلمة الحسنى والحوار والإسلام وكتابه وسنته فيهم كثير من هذا، فلماذا تتم تجزئة النصوص وإخراجها من سياقها فقط لتوائم الرغبات السياسية للحكومات والبلدان التي يوجد هؤلاء الدعاة والشيوخ فيها؟ الكلام الذي سمعناه أخيرا من أحد الدعاة الكبار حول تكفير الآخر والدعوة إلى العنف والقتل لا علاقة له - من وجهة نظري المتواضعة - بالإسلام كدين حنيف ونعمة للبشرية لأنه اجتزأ نصوصا محددة من شيخ إسلامي عاش في زمان غير زماننا وثقافة غير ثقافتنا. ولهذا أخفق الداعية في نقله عنه لأنه اجتزأ ما يوائم مراده ومراد السياسة الخاصة للبلد الذي يعيش فيه وإلا لنقل عن هذا الشيخ تكفيره لطوائف وملل إسلامية أخرى وأديان أخرى أيضا. لا يجوز أن نقول لو كان الرسول بيننا لفعل كذا وكذا أي كما نريد نحن ومن معنا. ولا يجوز أن نقول لو كان ابن تيمية بيننا لأفتى لمصلحتنا. هذه مفارقات تاريخية عجيبة وغريبة وغير منطقية لا يقبل بها كثير من المفكرين المسلمين والدعاة والشيوخ المتنورين.