قبل حوالى الخمسة عشر عاما أو تزيد عليها بسنة أو سنتين، كنا قد سمعنا نقدا لاذعا لأول مرة لأحد المشايخ في بدايات تشكل وعينا الفكري إبان سطوة الصحوة في الأوساط الشبابية، والنقد اللاذع ذاك كان لشيخ سلفي مغمور لم يكن يعلم عنه أحد قبل تلك الحادثة في مقابل رموز الصحوة الذين كانوا يلهبون مشاعرنا ومخيلاتنا في خطبهم على المنابر وأشرطة الكاسيت في قضايا غالبا ما كانت عادية، وقابلة للأخذ والرد، ولا تحتمل كل ذلك الصراخ على المنابر، وقد تراجع بعض منهم عن ذلك والتزموا خطا أكثر هدوء وإصلاحا بعد سنوات السجن. كان الشيخ المنتقد (بضم الميم وفتح القاف) من قبل شباب الصحوة إذا لم تخني الذاكرة هو دبيان الدبيان الذي كان يقول بجواز الأخذ من اللحية دون حلقها بالكلية. هذا الرأي كان محل نقد ونقاش طويل بين الشباب رغم أن الدبيان لم يأتِ بجديد في هذا الموضوع وقال به الأقدمون. الشاهد هو تلك الخصومة التي حصلت للدبيان واختفى اسمه لاحقا من الحديث، ولم يعد يذكره أحد بعد ذلك الرأي اليتيم له. في حائل وقريبا من نقاشاتنا حول الدبيان في أواخر التسعينات كان قد أقدم رجلان من شباب الصحوة المتحمسين بضرب الشيخ السلفي عبدالله العبيلان في مزرعته، وعوقبا بالسجن، ولا أعرف السبب حتى الآن في إقدامهما على تلك الفعلة، إلا إذا كان العبيلان يخالفهم في بعض الآراء والقضايا الدينية. كانت المكاتب كما تسمى في تلك الفترة وحلقات تحفيظ القرآن تعج بالخصومات المفتعلة من غير سبب وجيه يذكر إلا لكون المكتبة الفلانية تتجوز في انتشار الأناشيد، وطريقة تلوينها الصوتي مع اختلاف شديد حول استخدام الدف، في حين تتحفظ على الأناشيد بجملتها المكتبة أو الحلقة الأخرى. وعلى مستوى أكبر كانت الخصومة دائرة كثيرا بين التيار الصحوي والتيار الجامي إلى درجة الاختصام الرسمي، وتقديم العرائض حول تجاوزات التيارين؛ خصوصا من قبل الجامية تجاه الصحويين، وانتقاداتهم الواسعة والمشهورة لهم، وإصدار البيانات ضد بعضهم البعض. في تلك الفترة أيضا كنا نحضر محاضرة لسلمان العودة في جامع برزان في حائل، وفي الركعة الأولى من صلاة العشاء بعد المحاضرة صرخ أحد الشباب الرافضين لفكر العودة بأعلى صوته : (المباهلة يا سلمان). عرفنا بعدها أن ذلك الشاب كان من التيار الجامي. في كتابه (زمن الصحوة) يسرد ستيفان لاكروا أحداثا وقصصا حول الخصومات الدينية بين تيار أهل الحديث الذي يتزعمه الألباني وإخوان الصحوة الإسلامية، والبيانات والردود والاتهامات الشديدة اللاذعة لبعضهم البعض الذي شكل مجمل تلك الفترة، بعد أن انحسر الصراع على الحداثيين مع الصحويين لصالح الأخيرين، مما أعطاهم قوة أكبر بكثير من غيرهم (راجع الصفحات من 111 إلى 147). وحينما أدلى الكلباني بجواز سماع الأغاني ثار عليه الكثير من الإسلاميين في السعودية بالردود والدحض. بعض الشباب عاد للممارسات الإقصائية والشتيمة والخصومة الدينية مع الكلباني، كما فعلوا نفس الشيء مع عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحمد الغامدي في رأيه حول جواز الاختلاط. أخذت الخصومة في الفترة الأخيرة شكلا جديدا بين الإسلاميين حيث دخلت في خط المحاكمات والدعاوى القضائية، إذ أقامت سلوى العضيدان دعوى على الشيخ عايض القرني باتهامه سرقة كتاب لها وكسبت القضية. أما الدعوى القضائية المدوية الأخرى فهي بين علمين إسلاميين، حيث أقام الشيخ عيسى الغيث قبل شهر أو أكثر بدعوى قضائية ضد الشيخ محمد العريفي، وهما نجمان من النجوم الإسلاميين في الساحة السعودية مع غلبة في الشهرة للعريفي لأسباب ليس هنا مكانها، ومازالت القضية في المحاكم لم يبت فيها القضاء. وأيا يكن الأمر فالخصومة بين الإسلاميين قديمة ومعروفة في التاريخ الإسلامي حتى في داخل المذهب الواحد، بل والمدرسة الواحدة أحيانا. الصراعات بين الإسلاميين وخصوماتهم يمكن أن تأخذ في ظاهرها شكل الخلاف الديني الخاضع إلى عملية التأويل النصي المتواصل، لكنها في حقيقتها هي شكل من أشكال الصراع على السلطة الدينية بشكل أو بآخر، والهيمنة الاجتماعية من خلال المعطى الديني.. في الأدبيات التراثية نقرأ بأن اختلاف العلماء رحمة، وأنه لا إنكار فيما اختلف فيه، كما نقرأ في الأدبيات الحديثة بأن الخلاف لا يفسد للود قضية، لنكتشف عكس كل ذلك لدى إسلاميينا، حيث الصراع يتعدى الخلاف الفكري إلى المفاصلة السياسية.