من الندوات الهامة التي حضرتها، والتي تضمنها البرنامج الثقافي للمهرجان الوطني «جنادرية 28» للتراث والثقافة، كانت ندوة تحت عنوان: الفساد المالي والإداري والتنمية المستدامة. وقد شارك في الندوة التي أدارها الدكتور خليل الخليل كل من الأستاذ محمد الشريف رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والدكتورة أميرة كشغري واللواء عبد الله السعدون والدكتورة حسناء القنيعير. أهمية الموضوع تكمن في كون الفساد مع أنه قديم ورافق المجتمعات والحضارات الإنسانية المتعاقبة كافة، غير أنه أخذ بعدا خطيرا بل وكارثيا في العقود الأخيرة ليس على الصعيد الإنساني والأخلاقي والديني فقط، وإنما لدوره في تعطيل وتشويه وإفساد الفرد والمجتمع ككل، ومناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية كافة، حيث لم تسلم من تجلياته المدمرة (وبدرجات مختلفة) البلدان المتطورة أو المتخلفة في الآن معا، وهذا بالطبع يشمل بلادنا مثل غيرها من الدول، خصوصا مع وجود وفرة مالية وموازنة ضخمة. الفساد إلى جانب الاستبداد مثل أحد محركات ودوافع التغيير وتفجر الانتفاضات والثورات في العديد من بلدان ومجتمعات العالم، وهو ما ينطبق بالتأكيد على المنطقة العربية التي شهدت على مدى العامين المنصرمين تهاوي العديد من أنظمتها وقياداتها التي كانت تعد قوية وراسخة البنيان من الخارج غير أنها كانت بفعل آليات الاستبداد والفساد هشة ونخرة من الداخل. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي الأسباب والعوامل التي تكمن وراء استشراء وتفاقم ظاهرة الفساد في معظم البلدان والمجتمعات ولماذا احتل موضوع الفساد هذا الحيز الواسع من اهتمام الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بمنظماته وهيئاته الرسمية والأهلية. ولماذا نجد العديد من الدول والكيانات التي كانت تبدو قوية وراسخة قد انهارت وتفككت تحت وطأة تفشي الفساد في كافة مفاصل الدولة والمجتمع؟ ، في الواقع الفساد ظاهرة قديمة وتعود تاريخيا إلى المراحل الأولى لتشكل المجتمعات (العمران البشري) والدول، وكان متضمنا للصراع الأزلي بين الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم،.. الحرية والاستبداد. كما احتل موضوع الفساد حجر الزاوية في النظام الأخلاقي/ القيمي لجميع الحضارات والأديان وفي مقدمتها الإسلام، قال تعالى : «ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» الآية .. غير أن هذه الظاهرة (الفساد) في ظل نظام العولمة بمضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية أخذت بعدا متقدما وحضورا قويا على المستويين العالمي والمحلي .. شهد العالم على امتداد العقود الأخيرة خروج أو انتقال العديد من الشخصيات والقادة من المعتقلات إلى الرئاسة وسدة الحكم ، وكذلك سقوط وخروج العديد من الزعماء والفساد والحكام من سدة السلطة والزعامة إلى المعتقلات أو المنافي أو ملاحقين بتهم جنائية وقضايا فساد وتجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. إذا هنالك علاقة وثيقة بين الاستبداد والظلم من جهة والفساد من جهة أخرى، وهذا لا يعني أبدا انتفاء الفساد عن المجتمعات والدول المتقدمة غير أن انتشار القيم والمبادىء والتشريعات الديمقراطية وتجذر مفاهيم حقوق الإنسان ووجود وسائل الإعلام وقوة الرأي العام والاستقلال الحقيقي للقضاء كفيل بحصر واحتواء وفضح ومعاقبة المتلاعبين والمتورطين أيا كانت مواقعهم. الفساد باختصار هو الاستغلال البشع للوظيفة العامة أو الموقع الرسمي لخدمة المصالح الشخصية أو العائلية أو القبلية أو الطائفية، وهو غالبا يكون على حساب تغييب معايير العدالة والنزاهة والمساواة والتكافؤ بين الناس والجماعات.. لقد تنبهت الأممالمتحدة لحجم المشكلة الخطيرة (الفساد) التي تهدد الاستقرار ونظام القيم والأخلاق في العالم وأصدرت قرارا مهما حول وجوب مكافحة الفساد على المستوى الدولي وقد تشكلت في عام 1993م (منظمة الشفافية الدولية) ومقرها برلين. في الدول التي تفتقد الأطر السياسية والقانونية والقضائية أو تكون ضعيفة ومخترقة، وتغيب مؤسسات المجتمع المدني، فإن ثروات ومقدرات تلك البلدان تصبح لقمة سهلة في متناول أصحاب السلطة والنفوذ ويمتد الفساد ليشمل الحلقات العليا والدنيا ضمن الجهاز البيروقراطي المترهل. في الدول المتقدمة فإن الثروة هي المدخل إلى السلطة أما في معظم دول الجنوب ومن بينها الدول العربية فإن السلطة هي المدخل لتحقيق الثروة حيث يستغل بعض الساسة والشخصيات العامة مواقعهم بغرض الإثراء الشخصي غير المشروع عبر العمولات والسمسرة وسرقة وإهدار المال العام وعقد الصفقات المشبوهة.. من هنا تنبع أهمية تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإصدار الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، غير أنه يتعين تفعيل صلاحياتها وقراراتها وذلك بمشاركة الجهات القضائية والأمنية ومؤسسات المجتمع المدني.