الكاتب أقصر المشتغلين بالكتابة عمراً، وأطولهم وجوداً على أعمدة الصحف. ليس ثمة تناقض هنا، فهو كائن لا يتعدى عمره الافتراضي بضع سنوات، بعدها يغيب لكنه لا يختفي، إنما تتسع المسافة بينه وبين الكتابة كحرفة، أو بالأصح بينه وبين رؤيته للكتابة خاصة إن كان من المهتمين بالشأن «الخدماتي».. إذ يبدأ مطالباً بما يهم الإنسان البسيط، يلتقط أفكاره العظيمة من بساطة الحارة التي لم يكشط أديمها ما يتعلق بالبنية التحتية، لهذا يجد قلمه في هذه الأرض الخصبة ما يهيّج الحبر والحب، يُحبَط كثيراً من تجاهل المعنيين لصوته، هذه المرحلة أصدق المراحل وأكثرها نقاء، حتى المرحلة الثانية تأتيه الأصداء من الجهات الرسمية موضحة له بأدبٍ جم أن مطالباته بالبنى التحتية مطالب جميلة ومن حقوقه، ثم يخدرونه -بالأرقام- بعرض المشاريع المنطوية تحت بند «قيد الدراسة» التي لا ينقصها سوى «الاعتمادات» من الوزارة، وفي نهاية التعقيب الرسمي يأخذ الخطاب نبرة أقل لطفاً بأن على الكاتب أن يكون «مهنياً» ويتواصل مع الإدارة المطلوبة قبل الكتابة! وهنا سيكون الكاتب بين خيارين، إما أن يواصل مطالبه بذات الطريقة ويكسب القارئ/ ابن الحي ويضع «مهنيته» على محك الجهة التي ألمحت بأنها قادرة على تصنيف «المهنية»، أو يرضخ لدعوتها للزيارة ليتأكد من أن المشاريع «قيد» الدراسة ولا داعي لتكرار المطالبة فهي ستنجز «قريباً» -وقريباً هذه لزم تنصيصها وآمل أن نجد لها صندوقاً نسجنها فيه إلى الأبد فقد أصبحت مع زميلتيها (قيد الدراسة والاعتمادات) الأكثر استفزازاً للمواطن، الحل الأنسب أن يرتحل الكاتب لحيّ قيّض الله له سبل البنية التحتية بغفلة من الأخوات «قريبا وأخواتها».. ليجد نفسه بمجتمع جديد تختلف مطالبه فالماء مثلاً لا يعد مشكلة، ولا يقارن بمشكلات إغلاق المحلات بعد الثانية عشرة صباحاً!، ويجد نفسه كاتب مطالب ترفيهية للطبقة «الهاي»، ويكون فقد الخيط الرفيع الذي يربطه بالإنسان البسيط الذي همه كيفية إيجاد لقمة تسد رمقه -اللقمة الحقيقية وليست المجاز- وفقدان هذا الخيط سيجعله بعد ذلك يصعد للطبقات بسرعة عجيبة فيشغله هم تسهيلات المواطن الراغب للسياحة في جنيف.. وبهذا تكون اكتملت مراحل النمو، ولم يبقَ سوى تاريخ كاتب أصبح اسمه المتن والكتابة هامشاً للحضور!