قليلاً ما تمر أيام متتابعة دون أن نقرأ خبراً عن اكتشاف جريمة فساد بنهب المال العام، أو إحالة مشتبهين في أخرى إلى التحقيق، أو تقديم متهمين بالفساد هناك إلى المحكمة، أو صدور أحكام هنا على فاسدين.. إلخ. وقد لا يكون الخبر صريحاً بذكر الفساد بل ضمنياً، فهو عن تعثُّر مشروع، أو عدم أداء مشروع لغرضه الذي تم تخطيطه وإنشاؤه من أجله، أو فشل مشروع في امتحان الجودة والقوة عند سقوط أمطار، أو هبوب رياح، أو مرور السنوات، أو زيادة تكاليف مشروع بأضعاف مضاعفة عن تكاليف ما هو أكبر منه في دول قريبة وبعيدة.. إلخ. وليست كثرة أخبار الفساد وتنوُّعها وحدهما مبعث الفجيعة، فما يضاعف الفجيعة ويزيدها سُوءاً أن نقرأ أخبار الفساد في قطاعَيْ: «التعليم» و»القضاء» اللذين يحاطان في كل مجتمعات الدنيا بالإجلال والاحترام، سواء من حيث المسؤولية المناطة بهما، أم من حيث متطلبات الاضطلاع بهما والاشتغال عليهما في المنتمين إليهما. وإذا كان غير خبر ينقل أن قاضياً أو كاتب عدل أحيل إلى التحقيق لتزويره صكوكاً، أو صدور حكم ضده، أو أنه تقاضى -مثلاً- عشرة ملايين ريال رشوة مقابل تزويره صكاً لأرض تصل قيمتها السوقية إلى خمسة مليارات ريال.. إلخ، فإن أخباراً أخرى تنقل عن إحالة عديد من الموظفين في إدارات تعليم بينهم عدد من قيادات التعليم. ولا تقتصر الأخبار على الذكور، فعدد من المشرفات التربويات في أحد الأخبار متهمات في قضية فساد مالي. كما لا تقتصر هذه القضايا على السعوديين، فبعض الأخبار تنقل عن مقاولين وموظفين وعمال غير سعوديين. إن الفساد دلالة على اختلال معنى الوطنية بقدر ما هو دلالة على اهتراء الأخلاق وانعدام الضمير. «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»، هذه هي الأخلاقية البائسة للفاسدين. إنهم يفتقدون كل معنى وقيمة، فلا معنى لديهم للتخويف بما ينتظرهم من عذاب الآخرة، ولا معنى لديهم للوطن. الفساد أنانية تحيل الكائن من قيمة اجتماعية وقيمة معنوية إلى عدوانية على المجتمع وإلى مادية حقيرة. لكنني أعتقد أن للفساد ثقافته ومعانيه، فالفاسد يدلِّل بفساده على طول يده وذكائه وقدرته على ركوب النظام والاحتيال عليه لا الخضوع له والتقيد به، وهو من ثم يخلق حوله من المستفيدين والطفيليين من يمنحه المعنى والأهمية. كأن ثقافة الفساد – والحالة هذه- مختبئة في ثقافتنا أو في قطاع منها لم يصل إلى ما ينبغي من تهذيب. ما الذي يجعلنا نتصور المدير النظامي و»الحقَّاني» بصورة البائس المسكين؟! لماذا نتصور كل صاحب سلطة مصدراً للنظام وتفسيره واعتسافه لا أداة لتطبيقه واحترامه؟! إن معالجة الفساد هي – في النهاية- معالجة جذرية للثقافة، ولكن عاجل الأمر -الآن- أن نعالج الأنظمة، وأولها أن تُحَدَّد مناصب القيادات الإدارية بزمن لا يجاوز سنتين، فامتلاك السلطة بوابة مشرعة للفساد، ولن نكتشف منه دوماً إلا مثل ما يبرز على سطح الماء من قمة جبل الثلج. أما العقار فإن من المناسب استحداث نظام لتسجيله على طريقة «الشهر العقاري».