الاجتهاد في الآراء السياسية يجب أن يفصل عن الاجتهاد الديني البحت، بمعنى ألا يتم إقحام الدين في الآراء السياسية الخاضعة للمصالح والمفاسد، وأن يُنزَّه الدين عن ذلك، حماية ورعاية للدين أولا، ثم لعدم وضع الناس في حرج كثيرا ما سمعنا من بعض رموز الصحوة الدعوةَ إلى السماع للعلماء والمشايخ في كل شيء، وبالرغم من مكانة العلماء الرفيعة، ووجوب توقيرهم واحترام كلمتهم، إلا أن هناك تساؤلا فيما يتعلق بالسياسية، هل الارتباط بين الإسلام والسياسة يعني ضرورة الاستفتاء من العلماء حتى في الاجتهادات السياسية؟ لا شك أن هذا الموضوع شائك، وأنه يتداخله العديد من الضوابط والاشتراطات التي يصعب تناولها في مجرد مقال، ولكن سأحاول وضع إشارات في الموضوع فقط. عندما استشار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في موضع التمركز في معركة بدر لم يسأل علماء الصحابة، كما لم يأخذ مشورة قدماء الصحابة وعلمائهم، فالأمر ليس دينا، وإنما هي الحرب والسياسة. وهكذا في السرايا والقادة الذين كان يعينهم عليه الصلاة والسلام لم يكن يختار العلماء، وإنما الأصلح لتلك المهمة. الإشكال هو عندما يوحي البعض بحشر المبادئ أو القطعيات في السياسة، حيث يبقى الناس في حرج، فلا أحد يريد مخالفة الدين، وفي نفس الوقت قد لا يكون هناك قناعة بهذا الرأي الاجتهادي لدى البعض، أو أن هناك حاجة للجوء إلى رأي آخر، مما يؤزم المسألة! ونحن في عصرنا مع تراكم الأفكار بانعزال عن الممارسة لفترة طويلة من الزمن، تكوّن العديد من المناهج والتيارات على أسس تنظيرية غير واقعية وغير صحيحة، وهي بلا شك ستشكل أزمات معرفية وأيديولوجية، إضافة إلى الأزمات السياسية التي بدأنا نواجهها الآن. فعندما يُوصَف الاجتهاد بالدين ويُوحَى بقطعيته، فإن ذلك ينشئ أزمتين قد لا يدركها أولئك، الأولى: وصف أمر اجتهادي بأنه دين، مما يوقع صاحبه في حرج عندما يحاول التراجع أو تغيير هذا الإجراء أو الرأي الذي هو في حقيقته سياسي. الثانية: وضع تصور خاطئ لدى الناس أن هذا هو الدين مما يؤزم الأمور، فالناس ليسوا على عقل ورأي واحد، والأفهام تختلف، مما يعمق ويؤزم الاختلافات، وربما يشوّه الدين أيضا. سأحاول إيضاح الفكرة بطريقة أخرى، يوجد لدى تيارات الإسلام السياسي ثلاثة إشكالات رئيسة مع مطالب التيارات الأخرى، وهي الحريات والأقليات والمرأة - مع تفاوت بينهم - أذكر مثلا أن أحدهم بينما كنا في مناسبة فرح، قلب المجلس إلى حزن وساحة حرب، وتناول موضوع التحالف بين حماس وحزب الله، وأخذ يتحدث بنفس طائفي بحت وأعطى الموضوع بُعدا دينيا، بينما لو كان التحالف مع غير مسلمين لما قال ذلك الكلام ربما، بالرغم أنه فيما يبدو لم يسبق له أن قرأ مقالا سياسيا فضلا عن تكوينه لثقافة سياسية!. ثم نجد أن الطرف المقابل "حماس" هم أيضا إسلاميون ولديهم علماء دين، ويطرحون رؤيتهم في هذا الأمر من منظور ديني! فأين الإسلام إذا؟ وماذا لو تغيرت الظروف، وغيّر ذلك الطرف من سياسته العدائية لنا، وأصبحنا نحن في تحالف أيضا، ماذا سيقول ذلك الأخ؟ بلا شك سيجدون أنفسهم في حرج!. قد يثير هذا التساؤل الفضول لدى بعض القراء، ولكن الحقيقة أن الإشكال هنا، هو في إقحام الدين في أشياء تركها هو للناس ليجتهدوا حسبما يرونه أصلح بالسياسة الشرعية "وأنا هنا لا أتحدث عن مدى موافقتي أو عدمها لهذا التحالف وإنما لإيضاح الفكرة". نعم هناك ضوابط ومبادئ حول الموضوع، ولكن ليس بالشكل الذي يطرحه الكثير من تلك التيارات. ولأجل عدم اللبس، فإنه من الواجب ذكر أن الإسلام منهج وسلوك يحكم حياة المسلم كلها، كما إن المُحْكمات كحرمة الخمر والخنزير مثلا لا جدال فيها، وليست من السياسة في شيء، والحديث هنا عن الاجتهاد في الأمور السياسية الصرفة. فيجب فهم هذا الموضوع بشكل صحيح، وعدم إقحام الدين في أشياء قد يرى البعض أنها من مصلحتنا الآن، ويأخذ في محاولة عسف بعض الأدلة الشرعية لأجل تأييد وجهة نظره، ولكن يجب أن يتنبه أولئك أن تلك المصلحة قد تتغير يوما من الأيام، ولكن الدين لا يتغير!. الموضوع بلا شك يحتاج إلى الكثير من الحوار والبحث، وقد سبق أن كتبت مقالا بعنوان: "الفصل بين الزعامة الدينية والسياسية"، وحصل الكثير من النقاش حوله، ولكن لا يمكن أن نستفيد شيئا من الحوار طالما أن البعض يضع العراقيل، ويحاول الوقوف أمام حتى البحث والحوار الحر، ويحاول حتى عسف الأدلة وربما الأوصاف المنفّرة أمام كل من يريد البحث المتجرد والجريء. أعود وأقول إن الاجتهاد في الآراء السياسية يجب أن يُفصل عن الاجتهاد الديني البحت، بمعنى ألا يتم إقحام الدين في الآراء السياسية الخاضعة للمصالح والمفاسد وأن يُنزَّه الدين عن ذلك، حماية ورعاية للدين أولا، ثم لعدم وضع الناس في حرج ومشقة.