محمد عبد الله الهويمل - نقلا عن الاسلام اليوم (ارتطم رأسي بعامود فنزفت الأسئلة)... تلك هي الوضعية الطبيعية لكل صدمة تنتهي لطرح سؤال يفضّ الغفلة عن التلقي وأدبياته، ويحقق وعياً جديداً، لاسيما في التعامل مع المقدس في عالم ينشط باتجاه التعدّد بوصفه رفضاً لتوصيف أحادي إزاء حكم أو موقف. وأزمة النقاب إحدى الأزمات التي تتكرر، وتأخذ منحى جدلياً خاصاً يحرك النص الشارع في الذاكرة المعطلة أو المهملة، وساعة يتحرك هذا النص فإنه ينجز تجليات تتفاعل مع العقلي والقلبي على حدٍّ سواء، وتبلغ مداه التأثيري في حالة الإطراء الإيجابي في التدين والتمثل السلوكي لتوجيهات هذا النص الذي يرتبط بعنقود من النصوص يأخذ بعضها برقاب بعض. وهذا الصعود الجمعي للنصوص لا يبرز إلاّ في الصدمة الثقافية التي تنزف الأسئلة والنصوص ذات الصلة بموضوع النقاب والتعامل الإنساني والإنسانوي تجاهه، وشأنه في هذا المقام شأن بقية الإشكالات الفقهية التي وقعت في منطقة تجاذب السياسة والمؤسسة والتقليد، لاسيما هذا الأخير الذي يتبدل ويستورد القيم الإنتاجية التي تختمر في ضمير العادة لتتحول إلى قيم أخلاقية بحتة توجّه السلوك الموجب والسالب، فبعد أن كانت ثورية نفعية صارت أخلاقية إنسانية عزز من تصنيفها الجديد قبول الأكثرية الاستهلاكية لدخولها في منظومة الأخلاق الوطنية أو الجمهورية أو الشعبية وحدثت إقصائية للذوق بوصفه مؤسسة بحد ذاته وتم تجنيده واستثماره لخدمة التأثر الأخلاقي، وتمّت عملية جريئة من الثروة لإقناع العقل بتعريفات جديدة اشتركت فيها ثقافة اللذّة الممتدة في مفاصل الخطاب الإنساني الجديد التي تعسفت في تعديها السافر على مطلقات الجمال والتعاطي الحر مع دهشته وإثارته، فكان أن ضعفت شخصية الذوق والعقل بتبدلهما الفجّ تجاه المتغير، فغيّرهما المتغيّر بدلاً من أن يغيّراه؛ إذ الثورة تصنع العقل والذوق، وكثيراً ما نسمع بالعقل الجديد والذوق الجديد بل والإنسان الجديد. وأفرق هنا بين عقل النخبة وعقل العامة، والأخير هو الذي يحكم على تصنيف الأخلاق دون العودة على مدونات النخبة الفلسفية، وهذا ما أعنيه بتمرّد الذوق على الذوق، والعقل على العقل. وكل ما سبق غير حاضر في جدل النقاب؛ لأن الحسم يتم بقرار الأغلبية في برلمان يعرف أن له ذوقاً وعقلاً، لكنه لا يعرف أنهما ليسا من إنجازات الحرية، بل من إنجازات الآباء والأجداد الذين قاموا بالثورة، وقضوا على الدين فبحث الآباء الثوار وبسرعة عن قيم وموجّهات جديدة للسلوك، فكانت هذه النتيجة. العقل السائد دائماً يجزم بالمطلقية لريادته على كل العصور حتى يبرز عقل ثائر يؤسس لنفسه ريادة تزعم المطلقية ذاتها، وليس هذا من التسلّط والاستبداد، ولكن هكذا هو العقل، وتلك هي وظيفته التي لا تتجاوز إدارة العالم، ولا تقتصر دونها، ولأن العقل مرجعية أنجزت ديمقراطية قانونية وبيروقراطية فإن الأزمات والصدمات الثقافية لا تعيد البرلماني العلماني إلى دستور كتبه بيده، ويغيره متى شاء دون النظر إلى السماء، على النقيض من المسلم الذي يتعامل مع هكذا صدمات بمراجعات الانقياد والروحانية تجاه نص مقدس محفوظ يقرؤه ربما بعد وضوء وتذكار كثيف الشعور ذي صلة بتاريخ موثوق، يبعث على قشعريرة لذيذة تجعل من المسلم على مقربة مستمرة بالنص وانتاجاته. و التقارب هذه المرة سيكون محمولاً على انحياز عاطفي حيال الاعتداء على قيمة دينية رمزية وصفها علماء بالعادة، وهنا حدثت الجدلية التي حركت الذاكرة بعد صدمة أو إهانة وهي (هل النقاب واجب أم عادة؟)، وإقحام هذا السؤال بهذه الشجاعة من الهامش إلى المتن له دلالاته الثرّة، ويكسر الاحتكار الذي امتد عقوداً ينتهي إلى أنه عادة، إلاّ من أوجبه من علماء الخليج، ولكن ماذا يعني ازدياد عدد المنقبات غير الخليجيات في أوروبا؟ وكيف قرأن واخترن غطاء الوجه بقراءة يسيرة للأحاديث الصحيحة؟ ولِمَ اخترن هذا الرأي بعيداً عن مؤثرات المؤسسات الدينية في السعودية ومصر مثلاً، بل يظهرن ليناقشن وبكل قوة عبر الفضائيات آراءهن وقوة أدلتهن، لاسيما المنسوبة إلى غطاء أمهات المؤمنين..؟ إن هذا الظهور الشجاع بلّغ رسالة إلى الأمة والوعي الإسلامي إلى ضرورة العودة إلى النص وإعادة قراءته بعد أن استبدّ رأي واحد بعدم وجوب الغطاء. وإعادة هذه القراءة ستعود بالنفع الجزيل لأصحاب الرأي الجديد، لاسيما أنه إذا لم يكن واجباً فهو درجة أعلى من الطهورية وطلب الأجر. والأعمال بالنيات. وعندها ينقلب ميزان الحكم الفقهي من (عادة) إلى (أحوط) و(أفضل) و(أكثر أجراً) ويخسر رأي كشف الوجه في هذه التراتبية. ولكن هذا يحتاج إلى وقت ليس بالطويل. ومن أسباب بروز هذا الرأي هو التحايل على شروط كشف الوجه المتمثلة في التساهل في مساحيق الزينة وإسبال شيء من خصلات الشعر تكفي للإغراء والجذب. ولعل من نافع العودة للنص بعد هذه الصدمة مراجعة فتوى الإمام الألباني الذي أجاز الكشف، وجعل الغطاء أفضل وأصلح في هذا الزمن. وهذه العودة ستكشف أن هذه الفتوى تم اختطافها من دعاة كشف الوجه، فأخذوا ما يكفيهم، ورموا بالشروط الصعبة إلى الحديقة الخلفية للجدل، وكم ستحرجهم آراؤه لو عرضوها كاملة. إن تهمة (امتهان المرأة) التي وجّهها البرلمان الفرنسي للنقاب هي التهمة ذاتها التي توجهها دوائر سياسية أوروبية أخرى للحجاب الكاشف، ولكن الفرنسيين كانوا أكثر تحايلاً وذكاء فلم يربطوا بينه وبين الداعي الأمني، أو الربط المباشر بالقيم الجمهورية، أو الهوية الفرنسية كربطهم النقاب بالامتهان؛ لأن الداعي الأمني غير مبرر ومضحك؛ لأن المرأة الشريرة لا تحتاج للنقاب لتمارس شرها، فكل الجرائم والتفجيرات تمّت دون نقاب، بل المنقبة هي الأكثر وضوحاً لرجل الأمن، ثم ماذا ستخفي في وجهها من أسلحة؟ وبعد هذا فمن حق رجل الأمن كشف وجهها إذا توجّس شكًّا منها، وسيكون غبياً إذا فتش امرأة شريرة غبية، بل قد يطرح أحدهم سؤالاً عن النقاب الرياضي الذي يتخذه هواة الدراجات النارية بشوارع باريس، وهو ذو غطاء كامل للوجه. أما الخطر على الهوية أو القيم ففرنسا بلد لم يبق من هويتها إلاّ اللغة والأدب التي يُبذل في سبيل إحيائها المليارات، وإن كان كلامي متطرفاً أو سطحياً فالهوية الفرنسية المتماسكة لن يضرّ تماسكها خرقة "شبر في نصف شبر". إذاً ماذا بقي من الحجج إلاّ الذوقية منها؟! والذوق ليس سيد نفسه، بل خادم للمنتصر والثورة. وكلها ظواهر متوترة متأثرة بالعصب والقلق. والذوق السويّ لا ينمو في هذه الأجواء؛ فانظر كيف عُبر عن القلق بشأن الهوية ب(إهانة المرأة)على نحو تحايلي مبتذل لا ينطوي على عقل هو سيد نفسه. أنتهي إلى أن النقاب وفقهيّته ستحدث هزة في الذاكرة الشرعية، وستشكك في الاجتهاد التقليدي بوصفه (عادة). فهل يكون النقاب هو الحجاب الشرعي الصحيح والوحيد لاحقاً؟ والحجاب الكاشف من مخلفات العادات والتقاليد.. ما أرجوه ألاّ يُضيّق على الاجتهاد الجديد بالقوة والاستهزاء. التناقض هنا أن كثيراً ممن وصفوا النقاب بالعادة أو العادة المذمومة هم أنفسهم الذين صنفوا الارتماء على عتبات السيد البدوي جزءاً من الدين... أليس من حقنا أن نشكك في قدرتهم على الاجتهاد؟