تستوقفني دائماً الجملة الاستعارية «أطبق الصمت وساد السكون» لسببين، أولهما: هو أن الاستعارة ليست فقط مبالغ فيها، وإنما هي وصف لحالة مستحيلة! الغياب التام للصوت في حضور أذن لاقطة أمر غير وارد، بل حتى وإن توهمنا اختفاء الصوت تماماً في وجود الأذان، تظل الأصوات حاضرة، فالموجات الفوق صوتية (Ultrasonic) لا تلتقطها الأذن البشرية وتسمعها الفئران والدلافين والكلاب والخفافيش. وإن فرك الانسان إصبعيه سوياً فلن يسمع شيئاً، لكن هذه الحركة تُصدر خرفشة في المجال فوق الصوتي. وفي حين يسمع الإنسان أصواتاً على بعد مئة متر، فإن الكلاب تسمعها على بعد أربعمئة. الصوت ليس كالضوء يمكن أن يغيب ليعم الظلام ويصبح المكان دامساً، فحتى تحت عازل للصوت الخارجي، يظل الإنسان قادراً على سماع صوت أنفاسه ودقات قلبه. كل جسم يتحرك في المجال الأرضي (1) لابد وأن يسبب ذبذبة (2). تتحول هذه الذبذبة إلى موجة صوتية (3)، تلتقتطها أذن ما (4)، فترسلها إلى المخ الذي يتعرف على مصدرها (5)، ويقوم بترجمتها إلى حركة رد فعل (6). هذه العناصر الستة المكونة للظاهرة الصوتسمعية تبين لنا كيف أن المخلوقات كلها على سطح هذه الأرض متلاصقة عبر هذه الكثافة الهوائية، نحن لا يفصلنا عن غيرنا فضاء وفراغ، بل يربطنا بالآخرين جميعاً وسيط هوائي وثيق. تحاول نظرية الفوضى (Chaos theory) أن تفسر حقيقة غامضة وهي أن نتائج معقدة وغير متوقعة قد تظهر في الأنظمة المتأثرة بمصادرها المبدئية، وكيف أنه بالإمكان أن يتسبب حدث متناهي الصغر في نشوء أحداث عظام لا يمكن التنبؤ بها. وتستخدم مثلاً يعرف بتأثير الفراشة (Butterfly Effect ) : إن خبط أجنحة فراشة في طوكيو يسبب أعاصير في كاليفورنيا على بعد آلاف الأميال، بمعنى أن حركة بسيطة في مكان ما في العالم قد تكون سبباً في تحريك سلسلة من الاحداث الهائلة في مكان آخر. هذا هو السفر في الهواء المشترك بين مخلوقات هذه الأرض التي يهددها تلوث أي من شواطئها، وانفجار أي من تشيرنوبلاتها. إذاً لا صمت يمكن أن يكون مطبقاً وتحركات الأجسام تتوالى دون توقف لترسل الموجات في كل لحظة وفي كل اتجاه. هنالك فقط هدوء، لكن لا صمت تام. أما السبب الثاني الذي من أجله تستوقفني عبارة «أطبق الصمت» فهو عنف الاستعارة التي تصور الصوت أصلاً مسالماً يغتاله الصمت المتعدي. هذا التعبير مستعمل للدلالة على الخنق، فنقول: أطبق على فريسته أي هجم عليها محيطاً بها ومسيطراً عليها، وأطبق الرجل على رقبة خصمه أي خنقه، ونتبعه دائماً بحرف الجر (على ) كإشارة إلى التعدي والتجاوز، فالصمت يُطبق على البيت ليصبح موحشاً. فعل (أطبق ) يعني طوى ما كان مفتوحاً ومنبسطاً، ومن هنا فإن الصمت يُضيّق الحصار على الصوت ويضرب من حوله جداراً يمنع خروجه إلى الهواء الطلق، إلى حرية التحرك والسفر والانتقال. الصمت تكتيم للصوت، ولا شئ يوضح هذا مثلما توضحه قدرة الانسان على الكلام. يتميز البشر فيما العنصر السادس من الظاهرة الصوتسمعية بإمكانية تطوير رد الفعل والارتقاء به من مجرد حركة انعكاسية متناسبة مع مصدر الصوت إلى نظام لغوي معقد يستخدمه للخروج من حيز الذات المنغلقة إلى فضاءات الآخرين، نظام يعبر من خلاله عن مكنونات نفسه ليتفاهم ويتواصل ويتعارف ويبني حضارات إنسانية مشتركة. عندما تصل المحفزات الصوتية إلى الدماغ البشري، فهو لا يكتفي بالتعريف به وتحديد مصدره، لكنه يخترع التعبير اللغوي المناسب لوصف وقع ذلك الصوت على الوعي واستجابة النفس له. الصمت يخنق كل هذه الامكانيات: هكذا صوّر يحى الطاهر عبد الله في قصته (جبل الشاي الأخضر) اختناق الداخل بالكلمات التي تزدحم وتتوالد وتتشابك على بوابات التعبير المغلقة: «كنت أعي أنه لا بد يرقبني.. ويلتهب وجهي ويكاد يتشقق كما يحدث لإناء الفخار داخل الفرن الحار.. تكون الكلمات في فمي كخيوط الصوف المغزول: مملوءة بالوبر الجاف وقد تشابكت وصنعت أعداداً هائلة من العقد..». ها هو الكلام يتدفق رغم تراكمه وتزاحمه على مخارج الكلام الموصدة، ونحن نسمعه بأذن داخلية تأبي الاستسلام للسكون لأنها تعرف أن الفم المهيأ للكلام سيتعطل ويعجز إن لم يتحرّك فيُحرّك ليتحرّك تباعاً.. حركة النطق هي ضمان لاستمرار القدرة على النطق وتفادي فقدانها، إنها شكل من أشكال الصراع من أجل البقاء. وهكذا تصف صابرين الصباغ في قصة (صراخ الطين) الإعاقة التي تصيب المبدع نتيجة عدم ممارسة التعبير الحر: «أطبق الصمت على فم حياتنا، صار عقيدتها، بعدما أغمض لسانه عن الحديث..!!أصابني مرض الهدوء القاتل ؛ حرق كل عشب الصبر داخلي.. فررت إلى الطين والماء، احترفت هروبي، كلما صنعت نموذجا، أثني عليه الجميع..!!لكني لأدري لماذا..؟ كلما صنعت نموذجا لطائر كان بلا أجنحة، أو كفاً بلا أصابع «. للصمت جدار يجب أن يكسر لتتدفق الحياة بأصواتها السويّة، حياة تتحقق فيها كل الأحلام الصامتة، تلك الأحلام المؤجلة لزمن الكلام. ليس هنالك صمت مطبق، هنالك فقط كلام غير منطوق يتحاور من خلاله الإنسان مع نفسه، كلام هو بحاجة ماسة إلى التفكير به وتشكيله وتحريك لسانه به، حاجة غريزية يصعب مقاومتها. حكت لي عمتي رحمها الله من شعبياتها الجميلة عن امرأة تدعي (ستي ما تنهميش ) كانت مرحة وكثيرة الكلام وتحب الضحك، تزوجها رجل سمع عن روحها المنفتحة، فتحدى نفسه أنه يستطيع أن يدخل الهم إلى قلبها، فتزوجها وأسكنها غرفة منعزلة لتتوقف عن الكلام والضحك. وبعد شهر أتاها ليطمئن على سير خطته فسمعها تتحدث وتضحك وتسأل: «يا ستي طمبوجاجة، هل نذبح اليوم دجاجة؟» تعجب الرجل وظنها قد جنت، لكنه اكتشف بعد مراقبتها أن امرأته قاومت وحدتها بأن شكلت لنفسها رفيقة من العجين وألبستها ثيابها، ثم راحت تجاذبها أطراف الحديث. لم تستسلم زوجته لعقاب التصميت، وهو عقاب يورث القلب هماً والنفس غماً، وكان لا بد لها من إيجاد المتنفس السمعي الذي يستقبل دفقها الكلامي، فقالت وضحكت وحافظت على صحة عقلها. والمُطْبِقُ في اللغة هو السِّجْنُ تحت الأَرض، فكأن الصمت مقبرة الكلام. والمُطْبِقُ هو الجنون الذي يغشى صاحبه ويعمه. هكذا تكتمل دائرة الدلالة اللغوية ليتضح لنا أن الوحدة تفرض السجن من الخارج ومن الداخل، وفي وحدته لا يسمع المنعزل صوتاً ولا يجد حاجة لإصدار صوت يصله بآخر. عقوبة السجن الانفرادي أقسى عقوبة يتصورها بشر لأنها ببساطة ضد طبيعة التدفق اللغوي والاستجابة له. لنفس السبب يستألف الناس حيوانات يستأنسون بوجودها في منازلهم ويتبادلون معها الكلام لكسر حاجز السكوت ولحماية أنفسهم من الجنون.... أجل الجنون: «يالغرابة الجنون..،» تقول الطبيبة النفسية نيللي بلاي (Nellie Bly) «يغلق مرضاي شفاههم إلى الأبد.. يأكلون ويشربون ويتنفسون محافظة على الشكل الإنساني، لكن ذلك الشئ الذي يعيش الجسم بدونه غير أنه لا يعيش بدون الجسم كان مفقوداً...» كان ذلك المفقود هو الصوت الذي يعبر عن الوجود الذاتي والوعي به، وعن وجود الآخر والوعي به. بلا أصوات يتحول البشر إلى أشباح أطبق الصمت على أرواحها.