أعيش في باريس بعد أن ماتت زوجتي، مع خادمة مغربية، وهي في نفس الوقت طباخة، ولكنها لا تجيد غير الكسكسي والمشاوي من أنواع اللحوم، وأنا وإن كنت أحب الكسكسي، إلا أنني لست من أكلة اللحوم وخاصة الحمراء.. ولعل وزير الزراعة الذي نصح أخيراً المواطنين بعدم أكل لحوم الغنم يفرح بواحد من أمثالي، وأنا أستبدل السمك باللحوم الحمراء (الباء في الاسم الذي يأتي بعد استبدل تدخل على المتروك) ولهذا أحثها على أن تطبخ لي سمكاً في كل يوم، وقد تعلمتُ أكل السمك من الأستاذ حمزة شحاته رحمه الله، وهو لا يمانع من أن يأكل سمكاً في الفطور، وكنت أذهب معه بعد فترة وأخرى إلى سوق العتبة لنشتري سمكاً وروبياناً، ونعود إلى شقة الأستاذ عبدالله عبدالجبار ويقوم هو بطبخه، والأستاذ حمزة أوتي من كل شيء بنصيب : بسطة في المال والجسم، وشاعر موهوب، وصاحب خط من أجمل الخطوط، وطباخ ماهر وعازف ماهر على العود، وكان يدخل المطبخ بالقميص والبنطلون وبدون مريول، ولا تعلق بهندامه أي نقطة زيت، وكنا نذهب إلى العتبة بالأوتوبيس، ونعود بالتاكسي، وكنت أستغرب منه هذا التصرف وسألته يوما عن السبب، فأجابني، عندما نعود من العتبة نكون محملين بالسمك، فلو ركبنا الأوتوبيس، فإننا سنزعج الركاب برائحة السمك، بينما سائق التاكسي متعود على ذلك، فعجبت من رهافة إحساسه، وحرصه على عدم إيذاء الآخرين.. المهم تعلمت أكل السمك من حمزة شحاتة، والآن آكل السمك خمس مرات في الأسبوع، وفي تلك الأيام عام 55 و56 كنا نجلس في ضحى كل يوم في مقهى السان سوسيه (بدون قلق بالعربية) وكان يقع في ميدان الجيزة، وأقيم مكانه الآن محل لعمر أفندي، وكان كلّ واحد منا مشغولًا عن الآخر، فالأستاذ عبدالله عبدالجبار كان يكتب في كتاب " قصة الأدب في الحجاز "، والأستاذ حمزة يتصفح الصحف اليومية، وأنا كنتُ أراجع محاضرات الكلية، وكنا نتناول الغداء، وغالبا ما يكون وجبة سمك، وكانت تلك الأيام من أجمل أيام حياتي، وهي أيام لا تُنسى.. رحم الله الأستاذين حمزة شحاتة، وعبدالله عبدالجبار. هناك بيت أذكره لحمزة شحاتة : اليوم تعطيك الحياةُ وقودها وغداً ستصبح للحياة وقودا