تغرق مصر في لُجَّة الخلاف السياسي بين داعمي الرئيس ومخالفيه. استمرت الخلافات منذ انطلاقة الثورة، وكان الاختلاف العاصف والعدائي هو عنوان كامل المرحلة. لم يتورع أحد عن توجيه الاتهامات بالخيانة والعمالة والكفر والعهر وكل ما يمكن تخيله من المسميات اللاأخلاقية. شتائم وسباب بدأت في الشارع ما لبثت أن تلبست بالكبار الذين كان المؤمل أن يكونوا أكثر عقلانية. يقف اليوم الآلاف في ميدان التحرير وعشرات الآلاف في مواقع أخرى كُلٌّ منهم يدعي شرف تمثيل الثورة، وكُلٌّ ينادي ويسب ويشتم، ناهيك عن منابر الإعلام. يقف مناصرو حزب الحرية والعدالة ومن هم في ساقتهم مع سيطرة كاملة للحزب الواحد. يرفضون الاستماع للرأي المخالف، بل يمنعون حتى القضاة من مباشرة مهامهم في البت في قضايا قد تؤثر في مكاسبهم من الكراسي. انتقل المخالفون– بعد أن شعروا بثقل الهزيمة– إلى الضفة المعاكسة، ليطالبوا بإلغاء الإعلان الدستوري ونسخة الدستور التي دعا الرئيس للاستفتاء عليها عند الخامس عشر من هذا الشهر. السؤال المهم هو: ماذا كان سيفعل كل من الفريقين لو كان مكان الآخر؟ تونس– هي الأخرى- ليست بحال أفضل من مصر. اختلاف على كل شيء وفي كل شيء. المواجهات مستمرة والاعتصامات لا تفض إلا بتوسط كبار المسؤولين. لا يزال الرأي العام يرفض ما آلت إليه الأمور هناك عندما أصبحت الدولة أقل كفاءة وأكثر تعقيداً وأبعد ما تكون عن الشفافية التي وعدت بها، ووصل الصراع إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. تعاني ليبيا فقدان السيطرة على الأمن والسلم الأهلي. تعيين رئيس الوزراء تم بوساطات جهوية، وتخصيص الحقائب في الوزارات مر بمرحلة دفعت رئيس الوزراء لتشكيل حكومة أشبه بمجلس شيخ القبيلة، حيث يمثل كل منطقة وزير. يمكن القول إنه لضمان إعلان الحكومة، أذعن رئيس الوزراء لمطالب لم يكن مقتنعاً بها، وهذا في حد ذاته قدح في كفاءة الوزارة. كنت قد استغربت ابتسامات رئيس المجلس الوطني الانتقالي وهو يسلم مهامه إلى البرلمان المنتخب، واكتشفت أنه كان يبتسم شماتة فيمن سيأتي بعده، لكن السحر انقلب على الساحر فرفع أحدهم دعوى ضده. أما عن اليمن فحدث ولا حرج، فلا الرئيس رئيس ولا الدولة دولة ولا القبائل قبائل ولا أمل في نهاية أنفاق الاختلاف والاقتتال الداخلي والمطامع الانفصالية. الشيء الوحيد الذي ينجح فيه الجميع هو تجيير الأخطاء واتهام الآخرين وأولهم الرئيس السابق الذي انتخب أكثر من أربع مرات في انتخابات هي أقرب ما تكون للديمقراطية في عالمنا العربي. إذاً فالديمقراطيات التي أفرزها الربيع العربي لا تزال في مرحلة المخاض العسير، ولذلك قد يقول قائل أعطوها الوقت لتزهر. نحن نملك الوقت لنراقب، لكن هل تملك تلك الديمقراطيات فسحة الأمل هذه، أم أنها تغوص في وحل الاختلاف والعداوات بدرجة قد تحولها إلى حال ديمقراطيات سبقتها؟ لننتظر ونتابع. لكن قبل الحكم على هذه الديمقراطيات التي أنتجتها الثورات الشبابية واستغلها الكهول ليصلوا للمناصب في الحكومات والبرلمانات ورئاسة الجمهوريات. لنعد للخلف قليلاً، لننظر في حال ديمقراطياتنا الأقدم سناً والأكثر تجربة، التي قطفت النخب ثمارها، وهو الحال الذي يمكن أن نتوقعه لديمقراطيات بني يعرب الجديدة. نبدأ بالأقدم وهي الديمقراطية اللبنانية. تقع لبنان اليوم تحت سيطرة السلاح غير الشرعي الذي يمثله حزب واحد لا تستطيع الدولة أن تفرض عليه أي قانون. وذلك بعد أن خرجت من سيطرة سلاح غير شرعي آخر مثلته لسنين طويلة القوات السورية التي تولت مهمة السيطرة على الأمن الداخلي بعد الحرب الأهلية التي كانت بسبب رغبة كل فريق أن يسيطر على القرار السياسي في لبنان. حالة يمكن أن نربطها بما يحدث في دول الربيع العربي اليوم. فهل دول الربيع العربي متجهة باتجاه لبنان ما قبل الحرب الأهلية؟ أرجو ألا يكون الحال كذلك. وصل اللبنانيون في الطائف إلى اتفاق– طائفي- غير ديمقراطي يتقاسم فيه ''الهوامير'' بلغة أهل السعودية، السلطات التشريعية والتنفيذية، ويبقى الوطن والمواطن البسيط ضحايا. الكويت ديمقراطية أخرى، ولو كانت غير كاملة. تختلف التيارات مع أمير البلاد، يرفضون مرسوم الضرورة بإعادة تنظيم التصويت بعد حل مجلس الأمة. يحتجون ثم يقاطعون الانتخابات، وتموج الكويت في بحر الاختلاف غير الصحي. لم يكن هذا من قبيل الصدفة، فالسياسة الانتخابية المعمول بها سابقاً، أدت لوصول نواب يختلفون بقوة مع توجهات الحكومة. أصبح الخلاف والتعطيل والاستجوابات عنوان ديمقراطية الكويت. وصلت الحال إلى رفض الموازنات وتقييد يد الحكومة، ثم انتقل الخلاف إلى الشارع، عندها ظهرت المقولة ''هل تريد ديمقراطية الكويت أم وفرة الإمارات؟''. يفترض أن تأتي الوفرة من رحم الديمقراطية التي تهتم بالمواطن. فلماذا لم تحققه رغم أن الكويت كانت أكثر دول الخليج تقدماً منذ الاستقلال؟ يمكن أن نسمي الديمقراطية الثالثة ''ديمقراطية تحت الاحتلال''. أنتج الاحتلال الأمريكي ديمقراطية في العراق، لكنها وقعت بعد خروج الأمريكان تحت احتلال من نوع آخر. احتلال سياسي ومذهبي عنيف أدى إلى فقدان مفهوم الدولة والديمقراطية. ولأول مرة يكون رئيس الوزراء المنتخب خارج الوزارة ليتولى المنصب المرشح الخاسر، بناء على رغبة قوى خارجية وهو ما يوضح كَمَّ الاحتلال الذي يسيطر على القرار السياسي. ديمقراطية كرست الكراهية والحروب الطائفية التي لم يسلم منها حتى نائب رئيس الدولة. تؤكد حالة هذه الديمقراطيات – حتى الساعة على الأقل - فشل تطبيق الديمقراطية الغربية في العالم العربي الذي يعج بالانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية والفئوية والمناطقية. هذا هو السبب الأهم لفشل ''ديموعرابياتنا'' التي يحاول المستفيدون منها إقناعنا بنجاحها، ويرفض ذلك السياق المنطقي للأحداث. نشأت الديمقراطيات الغربية في مجتمعات ليبرالية علمانية لا تؤمن بالدين أو المذهب أو الفئة أو المنطقة، وتجعل الوطن فوق كل شيء، كان هذا نتيجة لتراكمات الحروب والحقد الكبير على رموز الدين والطائفة والقبيلة. ترسخت هذه الكراهية لعقود، حتى أصبح الناس يتعاملون مع بعضهم على أسس إنسانية بحتة لا تفرق بين دين أو لون أو جنس أو أصل، وهو ما تفتقده ديمقراطيات العالم العربي. إذا لا بد من تطبيق نموذج عربي مختلف يلائم الاختلافات المفصلية بين العالم العربي والغرب، وكفانا ''قص ولصق''.