في ذروة القومية العربية وأوج ازدهارها، كان الحديث عن منطقية فكرتها ومشروعية هدفها أشبه بالانتحار السياسي، فعند أي نقد سوف يتم اتهامك بالعمالة والتخوين، وربما تواجه عقوبة السجن أو النفي، في وقتها لم يكن أحد يتوقع أن يتوقف ذلك المد الجارف الذي اجتاح الدول العربية، بل كان الحديث عن صمود دول ملكية في عنفوان ذلك الخطاب الجارف أشبه بالمعجزة، لكن الواقع أثبت خلاف ذلك، فقد كانت فكرة القومية فكرة تعبوية للسيطرة على الشعوب، لاسيما في منطقة عاجزة مسلوبة الإرادة بسبب ضعفها بالدرجة الأولى، إلا أن ذلك لم يمنع دعاة القومية من استغلال هذا العنصر وتجربة أقصى تطبيقاته واستعمال القوة في قمع المناوئين للفكرة واغتيال أعدائها! التجربة السياسية الوليدة في تونس، ومصر غير مطمئنة إلى هذه اللحظة على أقل تقدير، فهناك بوادر استفراد بالسلطة في تونس ومصر على حد سواء، ومخاوف حقيقية من النخب من جر هذه الدول إلى نقطة الصفر، والرجوع للوراء بسبب قلة الخبرة السياسية لدى التيارات الإسلامية الحاكمة، صحيح أن الإخوان المسلمين انتظروا طويلا حتى يصلوا إلى الحكم، وأنهم نجحوا في جوانب متعددة كانت متاحة لهم، لكن هذا لا يعني أنهم سوف ينجحون في الحكم من أول اختبار! لا يمكن وصف كل منتقد لحكم الإخوان بأنه ضد الإسلام، ولا أن كل منتقد للدستور بأنه علماني! إن عملية الإرهاب الفكري ضد منتقدي العملية السياسية لن يكون سهلا، لاسيما وأن الواقع اليوم يختلف عن واقع الأمس، فهناك ترسانة إعلامية متنوعة في توجهاتها وميولها، ويصعب تسييرها والتحكم فيها كما كان يفعل أنصار القومية، كما أن مواطن الشارع يستطيع أن يعبر عن رأيه بأبسط الطرق وأسهلها بخلاف الأمس. لذا فعملية الإقصاء والتخوين لن تزيد الأمر إلا سوءا وانقساما، لا سيما وأننا شاهدنا من أبناء الحركة الإسلامية من يفكك هذه اللغة بشكل صريح، بل إن أحد منظريها السابقين وهو الدكتور ناجح إبراهيم أحد القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية في مصر، يقول إن الشريعة موجودة قبل كل دساتير العالم، وقبل أن يوضع الدستور، ولم ولن يحافظ عليها مادة قانوني في دستور..! ويفصل بشكل أكبر في رأيه في علاقة الدين بالسياسة بقوله “إن إقحام الشريعة في الخلاف السياسي، هو أمر لا يقبله الإسلام ولا الشريعة، لأن من يوجدون الآن في ميدان التحرير ليسوا كفارا وليسوا ضد الشريعة"..! ناجح إبراهيم هو منظر الجماعة الإسلامية، لكنه يرى أنه على المساجد أن تبتعد عن المناقشات السياسية، لأن هذا ليس دورها!! ولعل من المهم جدا أن نشير إلى أن ناجح إبراهيم بخطابه الجديد، لم يعد يحظى بنفس القبول لدى القطاع الأكبر من القيادات، على الرغم من احتفاظه بعضوية مجلس شورى الجماعة حتى الآن إلى أن بعض تصريحاته وآراءه أثارت استياء الجماعة. رأي ناجح ابراهيم جريء جدا في علاقة الدين بالسياسة وهو من الآراء القليلة التي تصرح بهذه العلاقة لحساسيتها لدى حركات الإسلام السياسي الضاغطة بقوة والمحركة للشارع العام، إن تفكيك حدة الخطاب لدى حركات الإسلام السياسي، يجب أن تأتي من ذات الخطاب الشرعي الذي تلبسه، لذا تكون أهمية حديث كهذا. عليه فأجدني مضطراً لإكمال حديثة عندما قال: إنه لا بد أن تسمو الشريعة الإسلامية فوق الصراعات السياسية، مشيرًا إلى أن الإسلام وضع دستورا به الشريعة، وأن الإسلام لا تصنعه السياسة، ولا بد من تنحية الشريعة الإسلامية عن الصراع السياسي، وحالة الاستقطاب تحولت إلى تكفير سياسي. الإخوان المسلمون واقع حقيقي لا بد من الإقرار به، وأنهم هم من سيحكم إذ أن الإشكالية ليست في حكمهم، ولكن في كيفية الحكم، لذا لا بد من الإقرار أن إدارة الصراع السياسي في دولة تعاني من اضطراب طويل يمتد إلى منتصف القرن الماضي، لم يتم حسمه طيلة تلك الفترة ليس بالسهل، ويحتاج إلى قوة وصرامة، لكن لا يمكن أن يكون مبررا لحقبة من الاستبداد الجديد، ولكن إلى قوة في الاستقرار والقرار السياسي المستمد من التشاور مع الأطياف السياسية الفاعلة.