يجب أن يحمي «الإخوان» في مصر أنفسهم من أنفسهم. لقد دانت لهم الدنيا، انتصروا في معركة الدستور الذي يصوَّت عليه اليوم، ونجوا من هزيمة بدت وشيكة في معركة التعديلات الدستورية، وأصبحوا «الحزب الحاكم»، وبات بإمكانهم «التجسس» على الآخرين، والاطلاع على معلومات سرية، إن لم تقف الشرطة ومباحث أمن الدولة ضدهم، فإن وقوفها على الحياد قوة لهم. يصولون ويجولون، ويهددون ويتوعدون، بل يقبضون على من يعتدي عليهم، أو من يعتقدون أنه ينوي أن يعتدي عليهم، فيضربونه ويهينونه ويحققون معه... ثم يقدمونه للنيابة كي تستكمل تحقيقها معه، وينصرفون آمنين من الحساب والسؤال. حصل هذا يوم الأربعاء قبل الماضي (5 الشهر الجاري) في ما اتفق على تسميته موقعة الاتحادية، حيث قصر الرئاسة، الذي اتفق المصريون منذ زمن الرئيس مبارك أنه رمز لسيادة الدولة فلا يعتدون عليه، ولكن حال التأجيج غير المسبوقة والاستسلام لثقافة الحشود قلبت الموازين المقبولة في التظاهر والاحتجاج. في الليلة السابقة تنادى المحتجون للتوجه نحو القصر، غالبهم سلميون ولكن كان منهم، ومِن على شاشات التلفزيون، «انقلابيون» يطالبون برأس الرئيس محمد مرسي. اكتسح المتظاهرون حواجز الشرطة، ووصلوا حتى أسوار القصر، كتبوا عبارات مسيئة، شتموا الرئيس، فعلوا على الجدران ما هو أسوأ... صرخ «الإخوان» والسلفيون وأنصارهم «وا إسلاماه». صباح الأربعاء، هاجموا بشكل منظم المتظاهرين الذين اعتصموا في المكان وأجلوهم، لتبدأ اشتباكات استمرت طوال اليوم والليلة التالية، في مبنى ملاصق للقصر، إن لم يكن في حرمه، وأسس «الإخوان» مقراً للقيادة والتوقيف، سمّته المعارضة «غرف الإخوان للتعذيب». لم يعذَّب أحد، ولكن ضُرب الكثيرون وامتهنت كرامتهم، وكل هذا مسجل حتى من «الإخوان» أنفسهم. حان الوقت أن يعترف «الإخوان» بأن ما حصل قليله وكثيره خطأ كارثي لا يتفق مع سياق الجماعة وخطابها القائم على قيم الإسلام، التي تعلي من كرامة الإنسان، ولو حصل مرة ثانية وثالثة، فستكون كارثة أكبر عليهم. تصرفات كهذه قد تؤدي إلى انتصار «الإخوان» وخسارة «المسلمين»، لذلك من الضروري أن يستمعوا للأصوات العاقلة من بينهم والتي خرجت تستنكر ما حصل، كالدكتور حلمي الجزار عضو الهيئة العليا لحزب «الإخوان» (الحرية والعدالة)، ولكن صوته لا يزال خافتاً وسط أصوات التهديد والوعيد والتحذير. حال الاستقطاب الحالية في مصر قد لا تسمح لهذه الأصوات العاقلة بالارتفاع، وسيترجمها البعض أنها ضعف وخروج على الصف وتخذيل، ف «الإخوان» في معركة «كسر عظم» اليوم لا تحتمل أي تراجع، ولكنه «الإسلام» أيضاً، والذي يقول «الإخوان» إنه ضميرهم، يتعرض لهجوم في قيمه ممن يدافعون عنه، وقد قيل إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن ذهب الإسلام فما الذي يبقى من «الإخوان»؟ أقل ما يجب عليهم فعله هو إجراء «تحقيق»، ولو داخلي، لتقصي الحقائق، ومحاسبة كل من تجاوز على مواطن آخر حتى لو كان بلطجياً، بضرب أو إهانة، أما الأفضل والأشجع فهو أن يقبلوا بتحقيق قضائي علني، ويقبلوا بنتائجه ولو كانت ضدهم، كي يؤكدوا للمصريين أنهم أهل أفعال لا أقوال، وأن ما جربوه وعاشوه طوال عقود من انتهاك للكرامة هو الذي يجعلهم يعلون قيمتها وهم في الحكم. يجب ألا يستمعوا لمن يقول إن لا مقارنة بين ما كان يجري في زنازين عبدالناصر ومبارك والتي سجلتها كتبهم وذكرياتهم، وشكلت رواياتها بعضاً من شخصية «الأخ المسلم» المصري وغير المصري، وبين ما حصل في تلك الليلة البائسة في مبنى أنيق بجوار قصر الرئيس، فالكرامة واحدة لا تتجزأ. محمد الباقر، الشاب المصري المؤيد ل «الإخوان»، لم يحتمل ما حصل، إذ وجده صادماً لكل ما نشأ عليه، أنقل بعض ما كتب في صفحته على «فايسبوك»: «لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بالتعدي بالضرب المبرح المحدث للعلامات على جسد البنات. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بالتعدي على معتصمين في خيامهم ولو كانوا غير مسلمين. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بالتعدي بالضرب والتعذيب لترهيب الفرد من الرجوع مرة أخرى. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بطاعة التكاليف من العباد التي تخالف أوامر ونواهي رب العباد. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا برد الظلم بظلم فعلاً وقولاً، ويأمرنا أن نكون مثالاً للقدوة السيئة. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بسحب أجهزة الدولة الأمنية واستبدالها بأنفسنا كقوات مدنية. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بعدم النزول ضد قوات نظام الطاغية، ويأمرنا بالنزول وقت المصلحة. لم أكن أعلم أن ديننا يأمرنا بالتأويل والكذب والتبرير لحشد حشود غفيرة على خلاف الواقع. لم أكن أعلم أن النزول للدفاع بالدم يكون للرئيس الإخواني وليس بمحمد محمود والعباسية. والله الإسلام بريء من هذا (..) يقوم به باسم الدين، رحم الله جميع الشهداء والمصابين، وحسبي الله ونعم والوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم عليك بمن اتخذ تكليف النزول.. أتحدث عن الإسلام يا من كلّف وأمر وحشد، وقام بذلك باسم الإسلام، وإلا فتكون المقارنة لفعل وقول بين أيديولوجية أو مدرسة فكرية أو جماعة تنظيمية، وليس باسم الدين وللدين!». انتهى حديث محمد الباقر الذي من الواضح أنه غاضب جداً، وغاضب تحديداً على من اتخذ الأمر بنزول شباب «الإخوان» للمواجهة ومن ثم «الاعتداء» على المعارضين. من الطبيعي أن تكون هناك دعوات لتحقيق جنائي في ما حصل، تقودها المعارضة، ليس بحثاً عن الحقيقة ومحاسبة من اعتدى، لكنها تريد توظيفها سياسياً بإظهار «الإخوان» كميليشيا ضاربة محاربة، ولعل «الإخوان» يريدونها أن تدرك ذلك، وأنهم قادرون على حماية «رئيسهم»، فالمعارضة أيضاً ليست بريئة من العنف والبلطجة واستخدام السلاح. لقد سقط قتلى من «الإخوان» أكثر من غيرهم، وسوف تتوه في تفاصيل هذا التحقيق وملفاته «الهوة» التي أُحذّر «الإخوان» من السقوط فيها. إنها هوة محفوفة بشهوات الانتصار والانتقام والاستبداد والقوة.. وعلى جنباتها شياطين يتخفون في هيئة ملائكة، ينادون بصوت جهوري: «الشريعة والشرعية» «حماية الثورة» «التصدي للمؤامرة» «انتبه من الفلول» «احذر من الإعلام والعلمانيين»، بينما كبيرهم يحمل لوحة تقول: «تغذى بهم قبل أن يتعشوا بك». هل الاختيار واضح؟ لا أعتقد، فثمة ضباب كثيف، وصخب هائل من كل الاتجاهات، معارضة وحكومة، وثوار شباب لا يعرفون ما يريدون، ربما الحكمة موجودة في المنعطف التالي!