في تقديري أن التعقيدات كثيرة في ملف الاستقدام -الملف المهم والأكثر سخونة على طاولة الشأن المحلي- فالتطورات الجارية في سوق العمل السعودي فاتحة فمها لمزيد من العمالة لمواجهة الاحتياج المفروض بحركة النمو المتسارعة في المملكة، والمراقب للوضع لا يرى انعكاساً واضحاً على الداخل لامتصاص إسفنجة البطالة، مبادرات القطاع الخاص بشكل عام متواضعة رغم أنه -أي القطاع الخاص- المعني بحكم الطبيعة وعلى مستوى العالم بالنصيب الأكبر من التدريب والتوظيف وتقليص فجوة البطالة. هذا القطاع في المملكة العربية السعودية يحظى بدعم ورعاية وتسهيلات لا تتوفر لغيره في أي بلد كان ومع هذا يمكن للمراقب أن يستشف أن ثمة خللاً في مسار توطين الوظائف وهذا مؤكد بالتدابير التي تتخذها وزارة العمل وتسعى لها من وقت لآخر وباستراتيجية الترهيب والترغيب من خلال ما صممته من برامج ترمي إلى خلق بيئة تنافسية لتوظيف السعوديين، هذا الأمر لا يلغي سلامة السجل الوطني لبعض مؤسسات القطاع وما تسهم به من مشاركة معتبرة في مجال توظيف السعوديين واستقطابهم وأيضا وللإنصاف لا يمكن أن نعد الموظف السعودي ذكرا وأنثى عالة على أحد فمن الثابت أنه كلما هيئت له الفرصة شق غبارها وأثبت وجوده، والعمل حق له قبل غيره وهذا شأن مكفول بنصوص نظامية لا يعتريها غموض. سياسة لي الذراع، لعبة خفية وقائمة بين القطاع الخاص ووزارة العمل، القطاع الخاص يضغط بحجم المشروعات التنموية والفترة الزمنية المحددة لإنجازها للفوز بأي عدد ممكن من تأشيرات العمالة غير السعودية ويحمل الوزارة في الظاهر والباطن تبعيات الإخلال بالعقود، وزارة العمل من خلال مسؤوليتها الوطنية تجاهد لفرض توطين ما تيسر من الوظائف للحد من اتساع نطاق البطالة وقد سلكت في سبيل ذلك ألف حيلة وحيلة، ومن جماليات هذا الصراع في نظري أنه وسع دائرة الخبرة الإدارية في الوزارة وأسس لمبدأ العمل الجماعي ويمكن القول إنه أيضا أظهر وسيلة العصف الذهني إلى الوجود بصفته طريقة شبه منظمة وخلاقة لعمل الفريق، وتستعمل في الأصل لجلب الأفكار للتحسين أو الابتكار. غير أن هذه الجمالية المذكورة أو حتى غيرها من الترقيعات التحسينية، لا يمكن لها أن تصرف النظر عن أهمية إعادة النظر في إدارة ملف الاستقدام وقد أوشك أن يكون مؤثراً بقوة على الأمن الوطني بتداعيات سلبية على رأسها تسيّب العمالة وضلوع بعضهم في ارتكام جرائم بشعة وغريبة على المجتمع ونشأة ما يسمى بتجارة التأشيرات، والتستر وقلب معادلة التوظيف إلى الوهمية لغرض اجتياز الشروط، هذا علاوة على ضجر الشارع من المنافسة على لقمة العيش، الضجر الذي لم يعد إخفاؤه ممكناً. اليوم الحاجة ماسة إلى تشريح تركيبة الاستقدام بشفافية ومن كل الجوانب لخلق ما يمكن من التوازن بناء على حيثيات من أهمها: إننا نستقدم في العمالة قيما وسلوكيات وأفكارا قد يكون لها على المدى القريب أو البعيد بالغ الأثر على هويتنا وتراثنا وأمننا وهذا يفرض وجوب عدم التوسع في الاستقدام بشكل عشوائي، الحاجة قائمة إلى (عمالة المعرفة) شريطة سلامة سجلها الأمني من الملاحظات وعلى ذمة جهات الاختصاص في بلدانهم وعلى أساس صحة المعلومة وعدمها تقيّم العلاقة بحزم ينبئ الغير بجدية الموقف الرسمي في هذا الشأن وفي المقابل الحاجة ماسة أيضا إلى وعي مجتمعي يدرك خطورة التقاطع مع الأنظمة ويباشر تجميد حسابات التستر بكل أشكاله بل إن الواجب يفرض مساهمة مجتمعية تشد أزر الدولة في هذا الجانب الذي يشكل بعض أفراد المجتمع وجوده وهذه صراحة لا يجوز التصادم معها، كما أن التوازن في الاستقدام من الناحية الجغرافية مهم، فتكدس جنسية بعينها يجر وراءه ذيل أزمة متوقعة لو فقط على سبيل إدارة القدوم الجماعي والمغادرة الجماعية عطفاً على بداية المشروعات وانتهائها لو افترضنا التقيد بأنظمة الإقامة، كمثال. ملف الاستقدام من أوجب واجبات المراكز البحثية في الوقت الراهن، وأتمنى أن ينال حقه من التقصي المدروس العاجل والشامل لكافة أبعاده دون إغفال وضع العمالة السائبة وإمكانية تدوير العمالة النظامية للحد من التوسع في الاستقدام وتقديم النتائج لجهات الاختصاص فلعل في ذلك ما يحول دون تحول الاستقدام إلى هجرة غير معلنة، الحد الذي يجب أن تتغير عنده قواعد اللعبة، ودمتم بخير.