كان «راتكو ملاديتش» جنرال الصرب في الحرب الأهلية في البلقان، مطلع التسعينات، يردد دوما هذه العبارة: «الحدود رسمت دائما بالدم، والدول بالقبور». وهو عمليا طبق هذه الفكرة، عبر خوضها بأوضح صورة من صور الحرب العرقية والإثنية والطائفية في صربيا الكبرى، فهو لم يكن فقط جزارا ضد المسلمين البوشناق، بل كان أيضا عدوا دمويا للكروات، وسعى إلى حفر خندق دموي يعيد فرز الطوائف والتراكيب الإثنية حتى يضمن الاتصال الجغرافي والديموغرافي بين صرب البوسنة وكرواتيا، منذ أن أعلن في يونيو (حزيران) 1991 جمهورية صربية في «كرايينا» الكرواتية. الصفحة القانية الدموية التي أدخلت ملاديتش متحف القتلة الكبار في التاريخ، هي مجازر قواته ضد المسلمين البوشناق، وهي التي كانت السبب الرئيسي في جلبه لمحكمة الجزاء الدولية، بعد سنوات من التخفي والهرب في حضن سنده الأكبر «بلغراد» وسيدها «سلوبودان ميلوسوفيتش»، الذي جلب إلى المحكمة ذاتها لاحقا، ثم توفي في سجونها. الفكرة من هذا الاستذكار، فضلا عن ذكرى مجازر الحرب البشعة في البوسنة، هي أن هذه العبارة التي كانت تحكم تفكير ملاديتش: «الحدود رسمت دائما بالدم، والدول بالقبور». هي التي يبدو أنها تحكم بشار الأسد وزمرته الدموية من حوله. ما لا يفهمه كوفي عنان أو بان كي مون أو كثير من كتاب الغرب والشرق، في مجازر الدم البشعة على طول الخط الطالع من جبال الساحل الغربي السوري إلى ريف حلب مرورا بحمص وحماه، هو أن مسطرة بشار، أو عقل بشار الحاكم له في الأغوار النفسية السحيقة، هو إعادة رسم الخارطة السكانية والاجتماعية، وفرز الصرب عن البوشناق عن الكروات، باستعارة لغة ملاديتش، ورفاقه، وضع من شئت من القوميات والطوائف، في الحالة السورية، محل من تمت تسميتهم أعلاه. لكن كما لاقى ملاديتش، والدكتور النفسي «رادوفان كاراديتش» مصيرهما وتم القبض عليهما وحجزهما بعد سنوات من التخفي في أقفاص المحكمة الدولية، فكذلك سيجري الأمر من بشار وجنرالاته القتلة، اليوم أو غدا أو بعد غد، لا مفر، الدم المسفوح «جهرا» وقهرا، يفور حتى يبرد على منصة القصاص. لا يعني هذا الاستذكار تطابق السيناريو بين ما جرى لجنرالات الحرب الأهلية من الصرب وغيرهم، وجنرالات وقتلة النظام الأسدي، فلكل حالة مآلها، ولكل مقام مقاله، ولكل قاتل مصيره، حسب تصاريف القدر وفرص الاقتناص، لكن لا مناص من شروق شمس القصاص، ولا يمكن لقاتل يحارب أكثر من نصف شعبه، بل حتى لو ربع شعبه، بل حتى لو خمس شعبه، بهذه القذارة والهمجية التي لا تفرق بين شيخ وصبي وامرأة وطفل، لا يمكن له البقاء هانئا مطمئنا من يد قصاص تناله، ولو على حين غرة. هذا هو المصير، بصرف النظر عن التفاصيل، وبصرف النظر عن هلوسات محمد حسنين هيكل أو هرطقات الكتاب الخواجات، ناهيك عن أبواق الأسد في لبنان والعراق وإيران، أو عن خطب السيد حسن نصر الله العصماء، الأمر أكبر من فصاحة المتفاصحين، أو حيل المتحايلين. * نقلا: عن صحيفة" الشرق الأوسط"