كان بإمكان راتكو ملاديتش أن يكون جنرالاً في جيش أية دولة من دول العسكريتاريا العربية. فالشعارات التي رفعها قائد الجيش الصربي السابق والتي باسمها ارتكب المجازر بحق من كانوا مواطنيه أيام يوغوسلافيا السابقة، من مسلمين وكروات، وحتى من معارضين صرب، هي الشعارات ذاتها التي لا تزال الحكومات العسكرية العربية تتحكم باسمها برقاب شعوبها إلى اليوم، والتي باسمها ترفض الرحيل. الدفاع عن مصلحة «الأمة» في وجه «عملاء» الخارج يبرر القمع بأية وسيلة. استخدام سلاح الخوف لنشر الرعب بين المعارضين. «المؤامرات» الخارجية هي وراء الحملات على النظام المتماسك والمتين، وسبب «التآمر» أنه النظام الوحيد القادر على الدفاع عن مصالح شعبه، وإذا ذهب فقد يذهب الشعب والبلد معه، لا سمح الله! ومثل «المؤامرات» هناك أيضاً المحاكم الدولية، فهي أقيمت خصيصاً لضرب النظام المقاوم ولتشويه صورته في عيون شعبه وأمام العالم، رغم أنها صورة ناصعة البياض! ساهم في وضع حد للمأساة التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك، ومثلها في إقليم كوسوفو، انهم يقيمون في قلب أوروبا، وبالتالي فقد كان صعباً أن تمر مشاهد المجازر التي كانت تُرتكب بحقهم من دون عقاب. كان يمكن كذلك أن يشكل انفجار يوغوسلافيا واستفحال حروبها خطراً على التوازن الديني والعرقي القائم في البلدان الأوروبية المجاورة. طبعاً حصلت مجازر في حرب البوسنة، ولم يستطع التدخل الغربي، متمثلاً بقوات الأممالمتحدة، منعها. وأبرزها بالطبع مجزرة سريبرينيتسا، ابشع ارتكابات الحرب البوسنية، بل الأبشع في أوروبا منذ جرائم هتلر في الحرب العالمية الثانية. لكن العدالة الدولية لم تسكت ولم تقفل ملفات تلك المجازر. بل أصبح اقتياد المتهمين بارتكابها إلى المحاكم شرطاً لقبول صربيا عضواً كامل الحقوق في الاتحاد الأوروبي. وهو الشرط الذي سيجعل ملاديتش يقف أمام المحكمة الدولية، التي شكّلت لمحاكمة مجرمي حرب البوسنة، بعد أن سبقه إليها ذلك الطبيب النفسي الرقيق وعازف الموسيقى المرهف، رادوفان كاراديتش! في بلغراد، خرجت تظاهرات اول من امس تنتقد حكومة بلادها لأنها سمحت باعتقال ملاديتش وتنوي إرساله إلى لاهاي لمحاكمته. بين المتظاهرين من قال إن الرجل عجوز ومريض وقد لا يعيش حتى استكمال محاكمته، ومنهم من اعتبر اعتقاله إهانة لكرامة صربيا لأنه دافع عنها في أصعب الظروف! لكن كل ذلك لم يمنع حكومة بلغراد من التبرؤ من ماضيها الأسود، وغسل يدها من قائدها السابق. هل لنا أن نشهد في المقابل، ولو بعد 16 سنة، جنرالاً عربياً يقف أمام أية محكمة ليدافع عن تهم ارتكاب المجازر بحق شعبه؟ وإذا كان اغراء الحكومة الصربية بعضوية الاتحاد الاوروبي هو الذي دفعها في النهاية إلى القبض على الرجل الذي كان يعتبر في صربيا، رمزاً من رموز الدفاع عن قوميتها، فهل هناك من إغراء مماثل يمكن أن يدفع نظاماً عربياً، في يوم من الأيام، إلى تسليم المتهمين في بلده للمثول أمام أية عدالة، سواء كانت محلية أو دولية؟ من مآثر المجرمين، فضلاً عن ارتكاباتهم، انهم جبناء أمام الإقرار بالمسؤولية ومواجهة الحقيقة. ابن راتكو ملاديتش نقل عن أبيه انه لم يكن يعرف شيئاً عن مجزرة سريبرينيتسا، رغم انه كان القائد العسكري الفعلي هناك! ومثله أنكر سلوبودان ميلوسيفيتش وكاراديتش من قبل مسؤوليتهم. في بلاد الانتفاضات العربية أيضاً تتسابق محطات التلفزيون إلى بث الندوات الطبية وبرامج الموسيقى والحفلات الساهرة للترفيه عن المواطنين، بينما المدافع وأصوات القذائف تصدح في شوارع المدن وتحصد الأبرياء... ولا من رأى ولا من سمع!