أبو حنيفة النعمان منارة شامخة مضيئة، قدمت للإنسانية عطاء خالدا من المعرفة الممزوجة بالقوة وجسارة الكلمة. ولد بالكوفة سنة 80 ه وترعرع في عصر غريب امتلأ بالتطرف والدسائس، لكنه مع هذا بقي مستوعبا لكل تناقضات العصر، قويا في الحق، شديدا على الباطل. نشأ في عصر امتلأ بالفتوحات والثراء الفكري والانفتاح على ثقافات أخرى، لكنه بقي مسلحا بقوة إيمانه وفقهه وقدرته العجيبة على التصدي لكل الأفكار التي لا تتفق مع قناعاته. تعلم أصول التجارة على يد والده ولم يشغله هذا عن ارتياد مجالس الفقهاء في الكوفة، فوزع وقته بين التجارة والعلم، ودرس الفقه والحديث وعلوم القرآن الكريم. وضع أصول التعامل التجاري على أساس قوي من الدين، وكان مثله الأعلى أبو بكر الصديق. جاءته امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا له مائة، وعندما فحص الثوب قال لها : «هو خير من ذلك» فزادت حتى وصلت إلى أربعمائة، فقال: بل ثمنه خمسمائة. كان له جار يسكر في الليل ثم يغني : أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر ولما افتقده ذات ليلة سأل عنه فقيل له أنه مسجون بتهمة السكر، فسعى له حتى أطلق سراحه ثم سأله أبو حنيفة «هل أضعناك؟» قال : «بل حفظتني رعاك الله» وأقلع عن الخمر . كان شديد التواضع، كثير الصمت، لا يقول إلا إذا سئل. شتمه أحد السفهاء، فلم يرد عليه، ولما فرغ من درسه وقام، ظل السفيه يطارده بالسباب والإمام لا يلتفت إليه، حتى بلغ داره فتوقف أبو حنيفة، وقال : « هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري». كان لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويطوّع الأقضية لواقع الحال، ما دفع منافسيه لإتهامه بأنه يفضل القياس على الحديث. وكانت فتاواه تعبر عن روحه التي ترفض الظلم وتسعى للتمسك بروح الإسلام التي تدعو إلى التيسير على الناس والرحمة وإقامة العرل والإنصاف. سرعة بديهته أنقذته من مواقف عديدة أوقعه فيها خصومه، لكن صلابة موقفه التي تمثلت في رفض منصب القضاء أدت إلى سجنه وتعذيبه حتى تدهورت صحته وهو شيخ في السبعين من عمره، وتوفي بعد خروجه من السجن بقليل. رحم الله أبا حنيفة وجزاه عن الأمة خير الجزاء.