أهم عوامل التداخل في السلطات بين القضاء العام ووزارة العدل هو عدم نقل جميع ما يخص القضاء بشكل مباشر إلى أن يكون تحت مظلة واحدة وهو القضاء العام بعد تكليف الملك وفقه الله لوزير العدل برئاسة المجلس الأعلى للقضاء بالإضافة إلى وزارة العدل؛ أخذ الكثير يُشكك في مدى استقلالية القضاء لدينا، وأن المجلس أصبح جزءا من الوزارة وهي جهة تنفيذية وليست قضائية! ونظرا لأن هذا الكلام متعارض مع الكثير من النصوص النظامية التي صدرت بأمر أو مرسوم ملكي، رأيت إبراز بعض تلك النصوص التي تؤكد على استقلالية القضاء وتحفظ هذا المبدأ. فقد فَصَلَ النظام الأساسي للحكم في مادته الرابعة والأربعين بين السلطات الثلاث القضائية والتنفيذية والتنظيمية، ثم أكد على استقلالية القضاء في المادة 46 بأن "القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة"، كما نصّ في المادة 52 على أن تعيين القضاة وإنهاء خدمتهم يكون فقط بأمر ملكي، وذلك لكي يكونوا مستقلين تماما عن السلطة التنفيذية. ثم أكد على هذه المبادئ نظام القضاء بشكل جازم، الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين في عام 1428 بمرسوم ملكي، في مادتيه الأولى والثانية، وأضاف عليها مادتين أخريين في استقلال القضاة وحصانتهم. كما نص نظام القضاء في مادته الثامنة (1) على استقلالية ميزانية المجلس الأعلى للقضاء ضمن ميزانية الدولة العامة. وهذا البيان المختصر يُبيّن مدى التأكيد على استقلالية القضاء من كل العوامل التي قد تُؤثر على مسار العدالة فيه. وكما هو معلوم أن الهدف الرئيس في استقلال القضاء هو أن يضمن الناس المحاكمة العادلة أمام القضاء، دون أن يكون هناك تأثير لصاحب نفوذ أو مال، ودون أن يكون الحكم بسبب حزبي أو أيديولوجي أو أي شيء لا علاقة له بالقضية ذاتها. واستقلال القضاء باختصار يظهر في جانبينِ رئيسينِ: 1- استقلال قرار القاضي أو بتعبير آخر؛ استقلال القضاة في اتخاذ القرار وعدم وجود أي مؤثر عليهم، سواء كان التأثير سياسياً أو أيديولوجيا أو حزبيا (وهذا أمر مهم ربما يكون مجالا لمقال مستقل مستقبلا بإذن الله، حيث يصعب الفصل بين أفكار الإنسان الشخصية وأحكامه إلا من خلال التقنين والعمل به) أو بتأثير الرأي العام، أو غير ذلك. ويتفرع من هذا المبدأ استقلالُ قرار تعيينهم وعزلهم عن السلطة التنفيذية كما ضمن ذلك النظام لدينا. 2- استقلال جهاز القضاء عن الجهتين التنفيذية والتنظيمية، حتى لا يكون عليه أي تأثير غير تأثير الشريعة والأنظمة التي يصدرها ولي الأمر غير المخالفة لها. وكما نصّ النظام الأساسي للحكم لدينا على استقلال القضاء وأكد عليه؛ فإن أغلب دساتير العالم المتحضر تنص وتؤكد على ذلك في دساتيرها. فقد نصّ على هذا الدستور الأميركي في المادة الثالثة منه نظرا لأهمية ومكانة الموضوع في الدولة المتحضرة. وكذا في بريطانيا حيث يمكن التأريخ لبداية خطوات استقلال القضاء لديهم بقانون التسوية (The Act of Settlement) الذي صدر في عام 1701 بقرار الملك ويليام الثالث، إلى آخر ما صدر في ذلك تقريبا؛ وهو قانون الإصلاح الدستوري (The Constitutional Reform Act 2005). هناك ملاحظة يكثر الحديث عنها في أوساط القضاة والمحامين، وهو التداخل في السلطات بين القضاء العام ووزارة العدل، وبنظري أن أهم عوامل هذا التداخل هو عدم نقل جميع ما يخص القضاء بشكل مباشر إلى أن يكون تحت مظلة واحدة وهو القضاء العام، وهذا في حال تحققه يزيد من استقلال القضاء، الأمر الذي يؤكد عليه ولاة الأمر كثيرا، كما أنه يمنع التداخل وتنازع السلطات بين الجهات المعنية، فمثل شؤون القضاة بشتى أشكالها يجب بنظري أن تكون جميعها تحت مظلة المجلس الأعلى للقضاء، بالإضافة إلى كل ما يتعلق بتجهيزات المحاكم وإدارتها وموظفيها.. إلخ، كما هو الحال تماما في ديوان المظالم. وبنظري أن هذا التداخل قد يؤدي إلى تأخر خطة العمل لتطوير القضاء، وأرجو أن يتم تدارك الأمر بأسرع وقت، حيث يشعر الكثير أن التطوير في جهاز القضاء العام لا يسير بالسرعة التي تسير عليها بقية الأجهزة الحكومية الأخرى، في الوقت الذي أكد فيه الملك على اهتمامه البالغ بهذا الجهاز، ووَضَعَ له ميزانية ضخمة لتطويره في وقت مبكر قبل عدة سنوات. ولا يخفى على أحد أهمية جهاز القضاء في الدولة، فإذا عرفت مستوى هذا القطاع وكيفية أدائه في أي دولة في العالم؛ فإنه يمكنك حينها أن تحكم على الدولة ككل، ومن خلاله تُحفظ الحقوق والحريات وتُراعى العدالة للناس، ولا يأمن الناس إلا بقضاء عادل مستقل عن كل ما يقف أمام عدالته، نسأل الله أن يديم علينا أمننا وعدالتنا.