ما يحدث لي ولغيري يدفعني للإيمان بأن الغد أجمل مهما كان اليوم قاسيا، وأن الصعوبات التي نتعرض لها وتعترض طريقنا تجعلنا أكثر قوة وصلابة، وأكثر امتنانا للأنباء السعيدة أكثر من أي وقت مضى في 12 نوفمبر 2009 أرسلتُ مسودة مقالتي كالمعتاد إلى زوجتي؛ لأستأنس برأيها حولها قبل أن أدفع بها إلى النشر. ردت على رسالتي الإلكترونية بشكل مقتضب لم أعهده: "جيدة. لا توجد لديّ أي ملاحظات حولها". استغربت إجابتها الموجزة. واستغربت أكثر خلوها من أي وجه تعبيري، فلقد اعتادت زوجتي أن تملأ الرسالة بابتسامات ووجوه افتراضية. لم أفكر طويلا في تعليقها وغياب وجوهها. أرسلت المقال إلى الصحيفة حتى لا أتأخر، ثم اتصلت عليها لاحقا. أجابتني ببرود غير مسبوق ونبرة تخبئ نبأ حزينا خلفها. شعرت أن هناك مصيبة، لكن لم أكن أرغب في سماعها. حاولت أن أتحاشى سؤالها عن أي شيء قد يحفزها لتفجير الحزن في أذني. لم أجد سبيلا للفرار سوى ادعاء انشغالي بأي موضوع؛ لأغلق السماعة وأهرب من مواجهة حشود الحزن التي تتربص بي ريب المنون، لكن زوجتي أحبطت مخططي. اعتقلتني بجملة صغيرة، لكنها كبيرة جدا، قالت بصوت خفيض: "أحمد لن يأتِ. أحمد مات". قلت لها:"كيف؟". لكن لم تجب. ناولت أمي السماعة لتشرح لي تفاصيل وفاة الجنين في أحشائها وهو في شهره السابع تقريبا. تألمت كثيرا بعد سماع النبأ. تألمت كثيرا كوني في قارة وزوجتي في قارة أخرى في مثل هذه الظروف. كنا ننتظر أحمد طويلا. اشترينا له ملابسه حتى عامه الأول. ابتعنا له قمصاناً زرقاء فاتحة تحلق فيها الطيور، وجوارب تبتسم في داخلها قطط أليفة.. وسراويل تسبح على ضفافها أسماك نزقة، وبيجامات تقطنها دبب كسولة، وحذاء بعجلات، وسيارة رياضية صغيرة بلا سقف، وطاقية مطرزة بجنيهات فضية. اخترنا له أثاث غرفته وألعابه وملابسه وحتى تسريحة شعره.. اخترنا له فريقه المفضل ولونه المفضل.. لكن وفي غمرة استعدادنا لاستقباله قرر ألا يجيء.. ربما احتجاجا على استبدادنا. ودعناه قبل أن يشاهد ألبوم صوره جنينا وهو يتقلب ويكبر في رحم أمه. عشنا أياما عصيبة بعد توقف نبضه. أمه كانت أكثرنا حزنا. فلم تلبث أن تفقد أمها الشابة بخطأ طبي، حتى فقدت جنينها وهو على وشك الوصول. كنا في عزاء طويل، حتى حملت زوجتي بعد عدة شهور، لكن أجهضت في أسابيعها الأولى هذه المرة. حملت مرة أخرى بعد عام ونصف. وكان الحمل قاسيا وصعبا إثر ظروفها الدراسية والنفسية وواجباتها المنزلية. تملكنا شعور أن هذا الحمل لن يستمر كسابقيه. الفريق الذي يخسر كثيرا يشعر أنه لن يفوز. كانت زوجتي تضع يديها باستمرار على بطنها لتستشعر نبض الجنين خشية أن يتكرر الحزن.. كلما تقدمت في حملها زاد قلقنا وتعاظمت شكوكنا. وفي خضم توترنا شعرت زوجتي في شهرها السابع بآلام المخاض. كشف عليها الطبيب ورآها آلاما اعتيادية لا تستحق القلق وطلب منا أن نعود أدراجنا. لكن ألمها لم يتوقف، بل يتفاقم. توسلت الطبيب ألا تغادر المستشفى وتظل تحت المراقبة الطبية حتى يخف الألم. وافق على مضض. تركتُ زوجتي في المستشفى وذهبت إلى المنزل. وقبل أن أصل إليه اتصلت عليّ زوجتي وهي تنتحب: "سينقلونني فورا إلى غرفة الولادة.. تعال بسرعة". عدت إلى المستشفى بسرعة البرق. استقبلني الطبيب وهو يحمل تعهدا بيده. أشعرني أن وضع زوجتي حرج. ولا يضمن أن يعيش الجنين. العملية صعبة والجنين ضعيف في أسبوعه الثامن والعشرين. انهرتُ وأنا أوقع. تخيلت وجه زوجتي، لو تعرض الجنين لأي مكروه، لا سمح الله، كيف ستكون حياتنا؟ متى سأشاهد ابتسامتها مجددا؟ ذهبتُ إلى غرفة الولادة وهناك استقبلتني بيدها. وضعت زوجتي أحمد بحمد الله وتوفيقه بيسر وسهولة خلاف التوقعات. نقلوا أحمد على جناح السرعة إلى حاضنة الأطفال قبل أن أشاهده. بعد نحو 10 دقائق دعتني الممرضة لإلقاء النظرة الأولى عليه. وضعت قبلة على جبينه وهو على سريره، ثم سجدت لله شاكرا. إن كل ما يحدث لي ولغيري يدفعني للإيمان بأن الغد أجمل مهما كان اليوم قاسيا، وأن الصعوبات التي نتعرض لها وتعترض طريقنا تجعلنا أكثر قوة وصلابة وأكثر امتنانا للأنباء السعيدة أكثر من أي وقت مضى. يجب أن نؤمن بما قاله الشاعر أبو الفتح البستي: "ما بين غمضة عين وانتباهتها.. يغير الله من حال إلى حال". وندرك أن التفاؤل هو الحل لمواجهة أزماتنا وأيامنا الحالكة. الحزن، الذي يعبر حياتنا مؤقت وغير مستمر. سيجيء يوم يهزمه الفرح ويحتضر.