استقبال حادثة الهجوم الشبابي المتقاربة زمنياً في أكثر من مكان في المملكة على الأماكن التي شاع شعبياً الزعم بأنها مسكونة بالجن، يذهب بالحادثة مذاهب مختلفة، ويحمِّلها أكثر من معنى، بعضها ينقض بعضاً، وبعضها يعدِّد المعنى وينوِّع أوجه الاستدلال بالحادثة. ولا تنفصل أوجه الاستقبال المختلفة للحادثة وما تركِّبه عليها من معنى عن دائرة الاهتمام الواسعة التي تمثَّلت في عدد من المقالات في كل صحفنا المحلية تقريباً لم يكد يظفر موضوع أو حادثة في الأسبوعين الماضيين بمثل عددها، أو بكثافة التفاعل معها والتعليق عليها، بالإضافة إلى شيوع الحادثة وحكايتها في المجالس وفي أحاديث الصغار والكبار. وقد لفتني في استقبال الحادثة – من بين ما لفتني- الذهاب بها مذهب التخويف من الشباب، هؤلاء الذين لم يعودوا يخافون من الجن! فمن يكونون إذن؟! وما الذي يمكن أن يخيفهم؟! ولماذا خرقوا مألوف آبائهم وأجدادهم ومسلَّماتهم؟! وتستمد هذه القراءة استدلالها مما تمدنا به الثقافة الشعبية عن الجن من إيمان يغني عن أي امتحان، في إثارتهم لفزع البشر، وتمثيلهم على الوجود الخارق للحس والقوة، والرمزية -دوماً- لإرادة الضرر بالإنسان وإيقاع الشر به. أما المذهب الثاني في استقبال الحادثة، فإنه -على ما يبدو- ينفي الحادثة من أساسها، أو يحكيها بغير ما نقلتها الصحف، ويرى أنها من افتعال الليبراليين والعلمانيين و«من يصفون أنفسهم بالتنويريين»، «فهذه من طرقهم المشبوهة يعملون الشيء ثم يعقِّبون عليه بحمله إعلامية شرسة». وهذه قراءة للحادثة تحيلها على التنابز التصنيفي بين التيارات الأيديولوجية، وتحسب معناها من زاوية الربح والخسارة الحزبية. وتهزأ بهذه القراءة قراءةٌ حزبيةٌ أخرى تنظر إلى الجن على أنهم خرافة خلقها الجهل والأحاديث الضعيفة والتأويلات الساذجة، وأن هذا خلاف الراجح إلى المرجوح في الشريعة الإسلامية تجاه الإيمان بعالم الجن الذي جاوزته الخرافات إلى تصورات زائفة عن قدرتهم على الإضرار بالناس وتلبسهم... الخ فالشباب المهاجمون للخرافة هنا مؤمنون يستضيئون بصحيح الوحي ولا يجدون بينه وبين صريح العقل تناقضاً، وبهذا امتلكوا ما بدا لنا أنه شجاعة وهو في الحقيقة لا يقتضي الخوف لأن دعوى الجن من منظورهم دعوى زائفة من أساسها! ولا بد أن نضحك على القراءات المذكورة أعلاه، حين نجاوزها إلى قراءة جادة -من جهة- ترى في دعوى الجن جريمة فساد تتستَّر بهم على سرق الأرض والعمران ونهب المال العام والغش، وقراءة هازلة -من جهة أخرى- ترى فيما فعله الشباب معاناةً للفراغ ورغبة في اللعب وبحثاً عما يسلِّي في مجتمع لا يجدون فيه ما يجده أمثالهم في غيره من نواد ومسارح ودور سينما ومدارس للموسيقى والفنون وما تتعدّد به مناشطهم ومواهبهم وتُسْتَنْفَد طاقاتهم. هكذا تغدو هذه القراءات جميعاً دليلاً على أن ما فعله أولئك الشباب هو عمل إبداعي يشبه في تعدّد معانيه واكتنازه بالقيمة الإبداعية والانزياح عن المألوف، شوارد المتنبي التي لا يزال الخلق يسهر جراها ويختصم! ولهذا فهو -حقاً- جدير بالاهتمام.