رفع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل المرشح المستبعد من سباق الانتخابات الرئاسية في مصر شعار تطبيق الشريعة الإسلامية فألهب حماس الجماهير وألتف حوله الملايين بعدما حظي بتأييد غالبية مشايخ التيار السلفي حتى الذين يتخذون موقفا متحفظا من الانتخابات، وكانت الشريعة هي السلعة الرائجة لتسويق هذا المرشح متبعا نفس الأسلوب الذي سار عليه حزب النور السلفي في الانتخابات البرلمانية وحقق به نجاحا ملحوظا وهو استثمار العاطفة الدينية برفع شعار الشعب يريد تطبيق شرع الله وجعله الغلاف الذي يسبق البرنامج الانتخابي، حتى وصل الأمر بأحد المشايخ المؤيدين للشيخ حازم بأن يقول: أنا لا أحب أن أقول إن من لا ينتخب حازم أبو إسماعيل يرتكب إثما، رغم أنني أعتقد في نفسى ذلك. بعد خروج الشيخ من السباق الرئاسي رسميا بسبب قضية جنسية والدته، أصبح التيار السلفي الذي كان في غالبه مؤيدا له عدا حزب النور ومرجعيته الدينية (جمعية الدعوة السلفية بالإسكندرية) ومجموعة من الدعاة المستقلين في حيرة من أمره، لأن حازم صلاح أبو إسماعيل كان يمثل لأغلبهم طوق النجاة بخطابه الأقرب إليهم فهو الوحيد القادر على رفع الشعارات الرنانة التي تطمأنهم بخلاف أبو الفتوح الإخواني المنفتح ومحمد سليم العوا المفكر الوسطي الذي يفتقد للكاريزما والشخصية السياسية الجاذبة وخطابه الغير مطمأن لهم فيما يتعلق بموقفه الشيعة والدولة الإيرانية، مما قد يجعلهم مضطرين إلى القبول بمرشح الإخوان المسلمين. شكل استبعاد أبو إسماعيل صدمة كبيرة لفئة غير قليلة من السلفيين الذين استطاع أن يقدم لهم نفسه في ثوب المهدي المنتظر الذي بيده الخلاص، فكان خروجه بالنسبة محطة النهاية، لأنهم لن يجدو ضالتهم في المرشحين ال3 الآخرين المنتمين للحركة الإسلامية (أبو الفتوح –العوا-مرسي بديل خيرت الشاطر) فآثروا الحياد كمجلس شورى العلماء السلفي والشيخ أبو إسحاق الحويني، في حين رأى آخرون ضرورة الترجيح بين أحدهم لمنع وصول الفلول والمرشحين الليبراليين واليساريين وإن لم يكن عن قناعة كاملة به حتى أن أحدهم قال لي إنه سيرشح مرسي من باب (أكل الميتة) للمضطر لا أكثر. خروج الشيخ حازم من السباق وإن ظنه البعض سيزيح كثيرا من الحرج لدى قيادات التيار السلفي في الإسكندرية متمثلا في جمعية الدعوة السلفية وفروعها وذراعها السياسية حزب النور الذين آثروا التمهل حتى الإعلان عن القائمة النهائية للمرشحين ولم يستجيبوا للضغوط الشديدة التي مورست عليهم لإعلان تأييد أبو إسماعيل من قبل المشايخ والجماهير وأعضاء وقادة الحزب والدعوة السلفية في المحافظات مماآأثار حالة من الاحتقان تجاه الحزب وقياداته، إلا أن اختيارها المفاجئ للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح بالأغلبية ودعم الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح والتي تضم أكبر عدد من الدعاة من مختلف التيارات الإسلامية لمرشح الإخوان محمد مرسي وضعهم في مأزق جديد لا يقل عن سابقه حيث أن هذا الاختيار لم يجد القبول عند مجموعة كبيرة من قيادات الدعوة والحزب اعتبروا ذلك نكوثا على منهج الحزب الذي رفع شعار تطبيق الشريعة في الانتخابات البرلمانية وحشد الناس على هذا الأساس فأعلنوا عن مواقف مغايرة لما خرج به اجتماع شورى الدعوة السلفية ولم يذعنوا لقرار دعم أبو الفتوح الذي يرونه متراخيا في موقفه من تطبيق الشريعة، فأعلنوا دعمهم لمرسي وفي مقدمتهم نائب رئيس الدعوة السلفية سعيد عبد العظيم والقيادي البارز محمد إسماعيل المقدم. دعم حزب النور ومرجعيته الدينية جمعية الدعوة السلفية لعبد المنعم أبو الفتوح وإن كان مفاجئا للبعض إلا أنه من الناحية السياسية اختيار ملائم ومدروس نظرا للظروف والمعطيات الحالية فالإخوان المسلمون يتجهون للسيطرة على جميع مفاصل الدولة ولا بد من إحداث توازنات والأهم من ذلك حالة الاحتقان الشعبي تجاه موقف الجماعة من الانتخابات الرئاسية بعدما ظلوا لمدة ما يزيد عن عام يؤكدون على عد سعيهم للتنافس على كرسي الرئاسة وفصلهم للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح من الجماعة عندما خالف قرارها وأعلن نيته بخوض الانتخابات منفردا، إضافة إلى الرفض الشعبي العام لفكرة استنساخ ولاية الفقيه في مصر عن طريق تكريس حكم المرشد من وراء ستار بترشيح نائب المرشد خيرت الشاطر الرجل قبل استبعاده وحلول محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة وريثا له وذلك بعد أشهر من تصريح خطير لمحمد بديع يقول فيه إن منصب المرشد أعلى من رئيس الجمهورية. هذه الأسباب وغيرها كانت كافية لاتجاه ثاني أكبر الأحزاب السياسية في مصر (حزب النور) السلفي لاختيار أبو الفتوح رئيسا ليكون داعما للحزب في التعبير عن شخصيته المستقلة وعدم تبعيته للإخوان (المتغطرسين) في تعاملهم مع التيار السلفي. ولعل شعبية أبو الفتوح الجيدة وقدرته على جذب الشباب من داخل جماعة الإخوان المسلمين ومن القوى الثورية والليبرالية وقربه من تيارات مختلفة رجح كفته بالمقارنة بالدكتور محمد سليم العوا صاحب الشعبية المحدودة رغم قيمته الفكرية والعلمية التي لا خلاف عليها. تطبيق الشريعة .. الواقع والمزايدات شكلت المادة الثانية من دستور 1971 والذي وضعه السادات واستمر في العمل به طيلة سنوات حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك حالة من الجدل الكبير، بسبب التجاذبات الأيدلوجية حول هذه المادة عقب الثورة، على رغم من استمرارها طيلة هذه العقود الطويلة كحبر على ورق. وتنص المادة الثانية على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وتنوعت المواقف حولها ما بين محارب مستميت في سبيل استمرارها بل طامع في تعديلها لتنص على أحكام الشريعة عوضا عن مبادئها أو أن تبقى على ماهي عليه في أسوأ الأحوال لتكون مرتكزا يتم من خلاله الحفاظ على هوية الدولة والانطلاق إلى التطبيق الكامل للحدود وفي مقدمة المنادين بذلك التيار السلفي الذي يراها مسالة حياة أو موت، وفي المقابل ينادي العلمانيون والليبراليون بمدنية الدول ويحاربون وجود هذه المادة التي يرونها تمييزا طائفيا غير مرغوب، فيما طالب آخرون بضرورة أن يكون للأقباط تواجد فيها بالإبقاء عليها وإضافة نص ولغير المسلمين الحق في التحاكم إلى شرائعهم في أحوالهم الشخصية مثلما اقترح شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وأمام هذه الحالة من الاصطفاف والاحتقان والتجاذب كان على التيارات الليبرالية واليسارية الساعية لمنصب الرئاسة أن تؤكد أيضا على ضرورة وجود هذه المادة دون تغيير كونها أصبحت مطلبا شعبيا وقضية أساسية لا يمكن تغافلها في برامج المرشحين مثلما أكد عمرو موسى وحمدين صباحي للخروج من هذا المأزق. ولعل السؤال الأهم هنا: كيف تطبق الشريعة؟ وما دور الرئيس في ذلك؟ قبل الإجابة عن هذا التساؤلات دعنا نقارن بين فهم حازم أبو إسماعيل الأكثر تمسكا ورفعا لشعار تطبيق الشريعة والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي تراه فئة غير قليلة من التيار الإسلامي مميعا لها حتى وصل الأمر إلى نعته بالليبرالي. يرى الشيخ حازم أبو إسماعيل وهو الأكثر جذبا للجماهير بشعارات تطبيق الشريعة ضرورة الالتزام بحدود الاستطاعة والتقبل وذلك لأن كثير من الناس ظلوا سنين طويلة مبعدين عن الالتزام والتدين، فمن غير المعقول أن يُعين الرئيس يوم الأحد فيأمر بفرض الملبس الشرعي يوم الاثنين، لقوله صلى الله عليه وسلم : اكفلوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وهذا لا يعني أن تكون الشريعة في ذيل الأولويات، ولكن تعني الالتزام بجدول مرحلي يراعي طاقات القبول لدى الناس حتى لا ننفرهم من عقيدتهم ونحن في طريقنا للأخذ بيدهم نحوها. ويذهب أبو إسماعيل إلى أن الفهم الرشيد للشريعة الإسلامية هو أن الحاكم المسلم ليس مفروضاً عليه أن يفرض على الناس أمراً مختلف في وجوبه بين الفقهاء كالنقاب مثلاً، ولكن وظيفته أن يسعى بكل حكمة وتريث إلى تطبيق المتفق عليه من الشريعة كتحريم الخمور والربا والخلاعة. ويؤكد أبو إسماعيل على أن الأقباط شركاء في الوطن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وسنعاملهم بالبر والإحسان بأفضل من معاملة أي دولة للأقليات بها، ولهم حق الاحتكام إلى شرائعهم لأن ديننا يقول : دعوهم وما يدينون، كما لهم حق التعيين في المناصب وفقاً لمبدأ الكفاءة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بعبد الله بن أريقط لإرشاده في الهجرة، ويقول أبو إسماعيل: أنا أقول لابني: إذا رأيت مسيحياً مظلوماً - ولو بنصف درجة في الامتحانات – ثم انبعثت للدفاع عن حقوقه ومِت في سبيل ذلك فإن حكمك في الإسلام أنك شهيد، وأنا على يقين أن النصارى سوف يصفقون للنموذج الإسلامي. في المقابل فإن البرنامج الانتخابي للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ينص على استلهام روح الشريعة الإسلامية التي تأمر بالعدل والإحسان لتسمو النفوس ولا تسود المصلحة الضيقة فللشريعة أهداف ومقاصد فهي عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها وحكمة كلها فما خرج عن العدل إلى جور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن دخل فيها بالتأويل وفي هذا هوية المجتمع ونظامه العام ومنظومة قيمة الأساسية التي يجب الالتزام بها والتأسيس على مرجعيتها. ولذا فإن أبو الفتوح برى أن تطبيق الشريعة ليس ما يشيع لدى البعض حول حصرها في تطبيق الحدود ذلك أن تطبيق الشريعة بالمفهوم الشامل إنما يتعلق بتحقيق مصالح البشر الأساسية المتعلقة باحتياجاتهم الضرورية فإن الأمر المتعلق بمواجهة الفقر هو من صميم تطبيق الشريعة وكذلك مكافحة الفساد والانحراف ومواجهة التحدي المتعلق بالبطالة في إطار الاستفادة من كل الإمكانات والفعاليات البشرية هي من صميم التنمية الإنسانية وكذلك تطبيق الشريعة. والمتأمل في كلا البرنامجين بتعمن يلاحظ تقاربا في الفهم وتطابقا في آليات التطبيق، ووضوحا أكثر عند أبو الفتوح في خطابه الإعلامي برغم من فهم أبو إسماعيل لذلك وإيمانه هو أيضا بضرورة التدرج في التطبيق كما يقول الشيخ ياسر برهامي في لقاءه التلفزيوني مع الشيخ خالد عبد الله على قناة الناس لكن أبو إسماعيل بحسب برهامي كان مدركا أن خطابه الإعلامي يختلف عن الخطاب العملي فكان يقول في المجالس الخاصة الشريعة تعطل الشريعة وأنه ربما ينتظر 50 عاما حتى يطبق الشريعة لكنه لا يخبر الناس بفهمه لقضية التدرج ولذلك فهو ألهب العواطف بخطابه الإعلامي العام. عليه فإن الخلاف بين المرشحين الذين ارتضوا المرجعية الإسلامية يظل طفيفا وحتى بين أولئك الذين سيمارسون الديمقراطية ويلتزمون بتطبيق الدستور وذلك لأن المرجعية الحاكمة هي الدستور، الذي يقره الشعب ويضعه ممثلين عن كافة فئاتهم وأطيافه كما أن التشريعات والقوانين ليست من اختصاص الرئيس وإنما البرلمان الذي يمتلك السلطة التشريعية والذي يسيطر عليه الإسلاميون في الوقت الراهن ولذلك فإن حسم تطبيق الشريعة ليست مسؤولية الرئيس. وهو ما يؤكد أن المهم في المرحلة الآنية لمن يبحث عن المشروع الإسلامي هو وصول مرشح يؤمن بالمرجعية الإسلامية بشكل عام ويمتلك الرؤية لقيادة الدولة وينأى بمصر عن المزايدات والصراعات ويستطيع طمأنة كافة فصائل وتيارات وأطياف المجتمع والقوى السياسية فمصر للجميع وليست لتيار دون آخر والمزايدات لن تأتي بخير، كما يتعين أيضا على الدعاة والمشايخ أن يؤدوا واجبهم في ضرورة إزالة اللبس والضبابية المحيطة بمفهوم الشريعة لدى البعض حتى يزول الاحتقان فالشريعة ليست الحدود وحدها كما يتبادر إلى أذهان المؤيدين لها وحتى الخائفين من تطبيقها وإنما هي جملة الأوامر الإلهية ، التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها ، فهي تبين أحكام العبادات والشعائر الدينية ، كما تشتمل على الحدود والمعاملات المالية ، وتضع الأسس الأخلاقية والاجتماعية لكافة نواحي الحياة. *المصدر: مركز الدين والسياسة للدراسات