في كل مرة تنشر وسائل الإعلام المختلفة خبرا يلسعنا بشحنة من الفزع عن جريمة ترتكب أو سلوك منحط في المخدرات، والجنس، والسطو، والعنف الأسري، والتهتك الخلقي، والاختلاس، والفساد، تبدو ردة فعلنا تجاهها عنيفة مستنكرة محتجة مدينة لها.. وهذا جانب مشرق من الحساسية الاجتماعية في الانحياز للفضيلة ونبذ الرذيلة، إلا أن التعبير عنها بالولولة من هول الصدمة ما زال يعزف على وتر أن ما حدث غريب طارئ على "مجتمعنا المحافظ"، وعلى عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة!! معلوم أن سمة المجتمع المحافظة لصيقة بالمجتمع التقليدي: القروي، أو الفلاحي، أو البسيط في طور المدينة، حيث القيم مستقرة بعفوية الأمانة والصدق والطيبة، وحيث العادات والتقاليد هي قواعد الضبط الاجتماعي المسبقة، لكن هذه العادات والتقاليد سرعان ما يعتريها ما يعتري قواعد الضبط الأخرى من تبدلات في الشكل والمضمون، في المفاهيم والقناعات، مع انفتاح المجتمع على الخارج والتطور في الداخل، فضلا عن أن المحافظة نفسها تختلف في الدرجة والنوع، كما أنها ليست حكرا على العرب والمسلمين، ففي الغرب المتقدم غلاة المحافظين إلى حد التزمت والعصبية والعنصرية، ما يعني أن صفة المحافظة لا ترتبط بالزمان والمكان، وإنما بقانون التطور البشري والارتقاء الحضاري، خصوصاً في زمن يتسارع إيقاعه بشكل لاهث زلق، وبات ما من ثابت وراسخ فيه سوى التغير نفسه والمكابرة في هذه الحقيقة، ليس كدفن النعامة رأسها في الرمال، وإنما إنكار للنعامة والرمال معا!! ومجتمعنا كغيره من المجتمعات دهمته مؤثرات العصر الهائلة وشهدت بلادنا تحولات عميقة واسعة من التنمية، تغير معها نمط العلاقات الأسرية والاجتماعية في القرابة والجيرة، كما تغيرت مفاهيم الكرم والحدب على الفقير واليتيم والمعوق والتكافل والإيثار، وكذلك العيب والستر، واكتسبت كلها معايير جديدة على مستوى الفرد والمؤسسة لا تشبه فيها هذه تلك. أما الظواهر السلبية فليست إلا نتاجا مؤسفا مصاحبا للتغير، مثلها مثل التلوث المصاحب للتصنيع، يحتاج إلى العلم وليس الولولة!! غير أن استخدام مقولة "مجتمعنا المحافظ" وشيوعها وانتشارها بشكل مكثف، لم يتدافع إلا مع خطاب "الصحوة" المتواتر منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت استراتيجية الصحوة وتدابيرها تقتضي العزف على هذه المقولة لتثبيتها وتأييدها كمُسلَّمة، ورفعها فزاعة تمترست خلفها للانقضاض على كل انفتاح حضاري يشكل لها تهديدا، ولا تراه إلا غزوا ثقافيا أو فكرا هداما فتم شحن الفضاء الاجتماعي، بل العربي بشكل عام واستدراجه ليناصب العداء أي تحديث أو مختلف، رغم أن مجتمعنا التقليدي "المحافظ" قبل "الصحوة" كان يتعامل مع المختلف والغريب بالتسامح على أساس "أن لكلٍّ عاداته وتقاليده" و"كلٌّ على دينه الله يعينه" ولم يستشر الشك والزجر ثم العنف، إلا بفعل تواتر خطاب "الصحوة"، حيث فقس بيضها التكفيري لعنة الإرهاب، بل ليس علو صوت الإسلام السياسي في الربيع العربي إلا تجليات فلولها بكل تأكيد!! لكن الوقوع في شراك هذه المقولة ما زال ساري المفعول لأسباب عديدة منها: أن الصحوة وإن رضخت أمنيا، فما زالت تراوغ خطابيا (وإن خف السيل العرم للمنشورات والكاسيتات) كما هو ناجم عن ظاهرة الاستسلام للأقوال والأحكام الجاهزة، وقد يكون من قبيل التحايل اللاشعوري للاعتصام بصورة أثيرة عهدناها للإحساس بأننا محصنون ضد سلبيات ما تعانيه مجتمعات أخرى، خصوصا الغرب الذي نثابر على التأكيد بتفشي العُقْد النفسية فيه والتفسخ والانحلال، كما قد تُستخدم المقولة تحاشياً للشبهة والتشكيك في الانتماء التي يسارع البعض للإرجاف بها. ورغم أنه ما من دراسات ترصد مؤشرات المزاج النفسي العام والتغيير الاجتماعي، إلا أن أحاديثنا اليومية لا تكاد تكف عن القول (إن الناس تغيروا)، بل إن ما نسبته (60 في المائة) من إجمالي المواطنين، بعمر الشباب، ممن يقتنون وسائل الاتصال الحديثة منغمسون في العصر، ما يعني أن مجتمعنا منفتح، وأن مقولة "مجتمعنا المحافظ" على النحو الذي شاءت "الصحوة" تكريسها كانت مجرد تسويغ لمشروعها وليست حقيقة إنثروبولوجية محايدة .. وها هم عرابو الصحوة "الإخوان المسلمون" وسدنة مقولة الحفاظ يقرعون في مصر اليوم طبولهم في انتهازية جديدة، تشنيعا على "حفاظنا" في "فبركات" حكاية الجيزاوي"!!