هل اقتنع المنشد "أبو عبدالملك" كما اقتنع كثيرون قبله أن الحكم الشرعي في الموسيقى والغناء ليس قطعياً بالشكل الذي كان يتصوره سابقاً وأن هناك مساحة واسعة للاختلاف تجعل هذا الفن أقرب للإباحة؟. ما الذي جعله "يشطح" ويعلن بجرأة أنه ترك الإنشاد واتجه صوب النقيض؛ الغناء المصحوب بالموسيقى؟. لاشك أنها ضربة في الوعي السعودي التقليدي الذي تربّى منذ طفولته على أن الموسيقى حرام قطعاً ليُفيق على مشهد الانقلابة الجذرية لمنشد الجهاد الأول وصاحب أنشودة "سنخوض معاركنا معهم" التي أصبحت أيقونة للجماعات الإسلامية الجهادية حول العالم. إذا تتبعت ردود فعل الجمهور في الإنترنت على النقلة الجديدة ل"أبي عبدالملك" فستجد أن عنوانها الأبرز هو الدهشة من جرأته في "الانتكاس" وخيانته للعهد، فهو في نظرهم قد ارتكب جرماً لا يغتفر، حتى إن بعضهم من شدة صدمته رفض تصديق الخبر وبدأ يتبنى "نظرية المؤامرة" ويؤمن إيماناً جازماً بأن هناك من ضغط على المنشد الكبير لينحرف عن مساره، وإلا كيف لمن ذاق حلاوة النشيد في صغره أن يتركه وهو على كبر؟. لابد أن وراء الأكمة ما وراءها!؟. إن ما غاب عن هؤلاء المفجوعين أن ما قام به "أبو عبدالملك" ليس بدعاً من الأمر، وأنه لم يفعل سوى الأخذ بأقوال فقهية أخرى تًبيح الغناء بالموسيقى بضوابط، فلم ينحرف، ولم يرتد، إنما اتّبع خياراً آخر من خيارات الدين الإسلامي السمح، وهذه في حد ذاتها ضربة قاصمة في "وعي" هؤلاء، عندما يدركون أن عدداً كبيراً من علماء الشريعة في العالم الإسلامي الفسيح قد ناقشوا قضية الغناء والموسيقى وأن لهم فيها آراءً مختلفة، ومن بينهم الشيخ د. عدنان إبراهيم الذي تطرّف في اعتقاده بإباحة الموسيقى حتى اعتبرها أحد الطيبات المقصودة في "أحل لكم الطيبات".. وله محاضرة طويلة عن ذلك موجودة في اليوتيوب. المهم أن هذا الاختلاف الواسع في مواقف علماء الشريعة تجاه الموسيقى يمنح "أبا عبدالملك" حجة قوية لتبرير موقفه، لكن المفجوعين يصعب عليهم قبول ذلك بالطبع، لأنهم تغذوا سنينا طويلة على فكرة تحريم الفنون حتى ترّسخت في عقولهم وباتت مسلّمة لا تقبل الجدل، وهم مجبرون الآن على الخوض في القضية بحثاً عن أجوبة فقهية ينقضّون بها على المنشد المُنتكس، وسيكتشفون لحظتها الحقيقة المرّة التي يرفضها وعيهم رفضاً تاماً وهي أن الموسيقى أو المعازف كانت ولازالت محلّ خلاف على مدى التاريخ الإسلامي. وقد رصد مؤلِفان سعوديان شواهدَ من هذا الجدل الفقهي؛ وهما الشيخ علي بن حمزة العمري في كتابه "الفن المعاصر" والشيخ عبدالله الجديع في كتابه "الغناء والموسيقى في ميزان الإسلام"، حيث أوردا أقوال العلماء المعتبرين وتباين مواقفهم ما بين حرمة وتحفظ وإباحة بضوابط، وكلها تثبت حقيقة واحدة؛ أن هناك فسحة فقهية تجاه الفنون لا تجعلها محرمة قطعاً كما كان الاعتقاد سابقاً. ما يجب أن تدركه أيها الشاب السعودي المفجوع أن رأيك ليس هو الحكم القطعي بالضرورة، فالعالم الإسلامي كبير ويتسع لاجتهادات فقهية شتى، ومثلما أن هناك من يحرم الموسيقى تحريماً تاماً، فهناك أيضاً من يُجيزها وإن على مضض. فقط حاول أن تقرأ لتكتشف هذا التنوع بنفسك. الكتب موجودة والعناوين التي ناقشت القضية كثيرة وليس مطلوباً منك إلا أن تقرأ فقط لكي تتصور المسألة تصوراً كاملاً قبل أن تُطلق حكمك على "أبي عبدالملك". وأنا هنا لا أحلل ولا أحرم؛ ولست أهلاً لذلك، وجلّ ما أطلبه أن نعي أن إيماننا بفكرة ما لا يبيح لنا إقصاء من لا يؤمن بها، خاصة في مسألة خلافية أساساً مثل الموسيقى.