ومع أنها صارت قضية رأي عام، إلا أن تناوُلها لايزال يشبه السير في حقل ألغام. لاسيما والناس حولها منقسمون لفريقين غالَيا في الشطط. ففريق لا يقبل أن يسمع منك كلمة في هذا الشأن قبل أن تتشهد أولاً وتتبرأ مما قال حمزة.. هكذا وكأنك شريك له في الذنب حتى يثبت العكس! وفريق ثانٍ لا يقبل أن يسمع إدانة أو إنكاراً من باب ضمان الحريّات وكأن الحريّة مطلقة! وبين الفريقين ضاعت المسألة الأهم: لماذا يوجد من يفكر مثل حمزة؟ وكيف نرد -بالمنطق- على مثل هذه الأفكار؟ يؤسفني أن ألفت انتباهكم إلى أن حمزة ليس نسيجا وحده في مجتمعنا، الذي يصر البعض على أن ينزهه عن طبائع البشر. إن ما كتبه حمزة -على سوئه- يهون، إذا ما قورن بما يصرح به كبار الملاحدة وعتاة الدهريين. لنتذكر أن حمزة لم ينكر وجود الله تعالى مطلقاً، ولم ينفِ نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكنه قد أساء الأدب وتجاوز في اللفظ. وكان ما قاله كافياً لاندلاع موجة غضب عارمة، فكيف لو علم الغاضبون بمواطن سعودي آخر يعتقد -معاذ الله- أن القرآن كتبه النبي من عنده؟ أو أن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم مُختلقة؟ كيف بمواطن يستكبر -إلى اليوم- أن تكون النبوة في قريش؟ أو مقتنع بأنه لا يهلكنا إلا الدهر؟! أمثال هؤلاء موجودون بيننا وإن كنا لا نصادفهم إلا في النادر. وهم -بالمناسبة- ليسوا تنظيماً سياسياً خفياً، يجتمع في السراديب والناس نيام، ويسعى لأن يدمر حياتنا كما يحرص البعض على تصويرهم. إنهم مجرد أفراد تعرضوا لامتحانات قاسية في عقائدهم. أشخاص عبث الشكّ في أفكارهم وعقولهم. ولأنهم محمّلون بأسئلة خطرة جداً فإنهم لا يُظهرونها إلا لماماً، فإذا ما فعلوا أثاروا دهشتنا أو استهجاننا. إنما لا يسع أحداً أن يكتم الأفكار التي في العقول مهما شطحت، ولا أن يقطع أقنية النشر المفتوحة وإن خالفت قناعاته. وعلى كلٍ فالتفكير والتدبر هما في الأصل سبيلان لمعرفة الرب متى ما وافقا منهج التوازن الذي نستشفه من حديثين شريفين. الأول في صحيح مسلم: (نحن أولى بالشكّ من إبراهيم إذ قال ربِّ كيف تحيي الموتى). قال السيوطي في شرحه «معناه أن الشك يستحيل في حق إبراهيم فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنتُ أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشكَّ فاعلموا أن إبراهيم لم يشكّ». والحديث الثاني في صحيح البخاري: (يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ مَن خَلقَ كذا؟ مَن خَلقَ كذا؟ حتى يقول مَن خَلقَ ربّكَ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ). حالة حمزة تفردت بتغطية استثنائية لأنها تفجرت عبر تويتر بالذات. لكن لو كُتب لنا أن نواجه بقية الحالات الأكثر إغراقاً في الشكّ وسوء الأدب فما العمل؟ هل نقيم «حد الردة» على كل واحد من هؤلاء؟ ونكوّم في ساحاتنا تلالاً من الرؤوس؟ إن هذا خيال مرعب لا يريد أحد أن يوغل في تصوره. سيقول قائل بأن قطع بعض الرؤوس كفيل بحفظ سواها! ومن كان هذا تفكيره فكيف ينسب نفسه لنبي الرحمة؟ وكيف له أن يدعو الآخرين للإسلام دين الحق والفطرة؟ إذاً فالسؤال الأهم الذي تواجهنا به قضية حمزة هو: ما يفعلُ المبتلى في عقيدته الذي تمرد عقله على إيمانه؟ وذاك الذي عنده أسئلة كبرى تخبط في إجاباتها. هل يتجه لأهل العلم والمشايخ ويواجههم بشكّه في وجود الله؟ أم يصمت ويستر على نفسه إلى أن تتطور حالته؟ ولئن واجه اليوم شيخاً بما عنده، فما الذي يضمن ألا يأخذه بجريرة سؤاله ويدينه؟ إن مناخ الخوف هو أعظم مأوى لجرثومة الضلال. فهل نحن قادرون على مواجهة بعضنا؟ وعلى الاعتراف بأن مجتمعنا ليس بالنموذجية التي نفترضها؟ أليس الإقرار بوجود الداء هو نصف العلاج؟ إن قضية حمزة تواجهنا أولاً وقبل كل شيء بحاجتنا لتطوير أساليبنا في المحاورة والإقناع، وعلى فهم نقاط قوة مقدساتنا التي تنبني عليها هويتنا فهماً حقيقياً غير قائم على العاطفة وحسب، كي يتسنى لنا أن نذبّ عنها بمنطقية حقيقية إذا ما تعرض لها أحد. هذه مسألة تقودنا للنبش في واقعنا التعليمي والتربوي والثقافي. فهل نحن مدرّبون على التفكير؟ وهل تعلّمنا الأسئلة الحقيقة قبل أن نبحث عن إجاباتها؟ حماية المقدس مطلوبة.. إنما أهون أنواع الاحترم ما يُفرض جبراً. ووجدنا الكثيرين، من العامة والخاصة، ممن ثاروا وهيّجوا المشاعر فقط ليثبتوا موقفاً، بدون أن يتحقق مكسب حقيقي على الأرض. وتجد من اختلف مع أولئك فهاج هو الآخر بدون أن نصل لنتيجة. والأدهى أن يوجد من يفرح بحالة الخوف هذه ويحسبها دليل تمكين فينتهي بنا الحال لمجتمع متحفز محتقن.. يخشى أفراده أن يتكلموا، ويفكرون ألف مرة قبل أن يصرّحوا، مخافة أن يُفسّر المنطوق بغير المراد فتقع النكبة وتثور الفتنة مجدداً. فيما تبقى الأسئلة الكُبرى معلقة عند أصحابها والأرواح الضالة مفتقدة للراحة.. تلومنا ونلومها.. إلى أن تتداركنا وإياها رحمة الله التي وسعت كل شيء.